عاد دونالد ترمب إلى السباق الانتخابي الرئاسي في الولايات المتحدة، حاملاً معه شعورًا بالانتصار ورغبة واضحة بالانتقام ممن اعتبرهم مسؤولين عن خسارته السابقة. ترمب ، بشخصيته المثيرة للجدل وخطابه الصدامي، لا يكتفي بالتصعيد ضد خصومه التقليديين من الديمقراطيين، بل يتوجه نحو مواجهة أعمق وأوسع نطاقًا مع ما يُعرف بـ”الدولة العميقة” (Deep State)، وهو المصطلح الذي يُستخدم للإشارة إلى شبكات النفوذ المؤسسية التي تضم قطاعات واسعة من البيروقراطية الأمريكية، الأجهزة الأمنية، مراكز الأبحاث، والشركات الكبرى التي تؤثر في رسم السياسات بعيدًا عن المسار السياسي الانتخابي.
لم يمضِ شهر على عودته إلى البيت الأبيض حتى بدأت ملامح حربه ضد النظام المؤسسي الأمريكي تتجلى بشكل واضح. ومن بين أدواته في هذه المعركة، الضغط على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين عن طريق تقليص أو قطع المعونات المالية والعسكرية، وهو أمر يُشكل تحديًا كبيرًا لدول تعتمد بشكل رئيسي على هذه المعونات في استقرارها الاقتصادي والسياسي. دول الشرق الأوسط، مثل الأردن ومصر والسعودية، قد تكون في دائرة الخطر المباشر، إلى جانب دول أخرى في مناطق مختلفة مثل كندا وبنما والدنمارك وربما يمتد الأمر ليشمل الاتحاد الأوروبي بأسره. هذا التوجه قد يعكس رغبة ترمب في إعادة تشكيل التحالفات الأمريكية العالمية، أو على الأقل إحراج الحلفاء التقليديين لدفعهم لتقديم تنازلات أكبر، بما يتماشى مع رؤيته الشعبوية والسياسات التي ينتهجها.
ومع ذلك، فإن المعركة التي يخوضها ترمب ليست متكافئة. فمهما بلغت قوته السياسية وعدد الأصوات التي يحصدها، تبقى الدولة العميقة منظومة راسخة وقادرة على استيعاب الصدمات السياسية، بفضل نفوذها الواسع وقدرتها على المناورة داخل وخارج مؤسسات الحكم. وعليه، فإن ترمب قد يواجه تحديات كبيرة في محاولته لتغيير موازين القوى داخل الولايات المتحدة وخارجها.
أردنيًا، التعامل مع شخصية غير متوقعة ومندفعة مثل ترمب يتطلب منا إعادة النظر بجدية في سياساتنا الإقليمية والدولية. المعونات الأمريكية، التي تُعد شريانًا اقتصاديًا وسياسيًا مهمًا، قد تكون عرضة للتخفيض أو التجميد، وهو ما يفرض علينا البحث عن بدائل حقيقية لتعزيز استقلالنا الاقتصادي والحد من الاعتماد على الدعم الخارجي. على المستوى السياسي، قد تكون هذه العودة بمثابة فرصة لإعادة التموضع ضمن الإقليم، من خلال تعزيز علاقاتنا مع الدول العربية والإسلامية، وتفعيل دور الأردن كمحور توازن في المنطقة. كما يجب أن نعمل على تنويع شراكاتنا الدولية، بحيث لا تبقى السياسات الأمريكية وحدها العامل الرئيسي في تحديد مستقبلنا.
الدولة العميقة ليست مجرد فكرة غامضة، بل هي واقع قائم في الولايات المتحدة، حيث تساهم هذه المنظومة في ضمان استمرارية المصالح الأمريكية الكبرى، بغض النظر عن تغير الإدارات. وبالتالي، حتى لو أراد ترمب تقليص الدعم المقدم للأردن، فإن هذا القرار قد يواجه معارضة قوية من داخل هذه المنظومة، التي تدرك أهمية استقرار الأردن كعنصر أساسي في حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. ومع ذلك، لا يجب أن نعتمد على هذه الفرضية وحدها، بل ينبغي أن نكون مستعدين لمواجهة كافة الاحتمالات. هذا يتطلب تعزيز الجبهة الداخلية اقتصاديًا وسياسيًا، ودعم المشاريع التي تسهم في تقليل الاعتماد على الدعم الخارجي، والتركيز على تمكين الشباب الأردني ليكون جزءًا من الحلول المستقبلية.
ترمب ليس مجرد شخصية سياسية، بل هو تحدٍ عالمي يعكس التقلبات الكبيرة في السياسة الأمريكية. وفي ظل هذه المتغيرات، علينا كأردنيين أن نكون أكثر وعيًا وابتكارًا في مواجهة هذه التحولات، والعمل على حماية مصالحنا الوطنية من خلال الوحدة الداخلية، وتعزيز الثقة بالمؤسسات الوطنية، وبناء سياسات تستند إلى رؤية واضحة تراعي مصلحتنا أولاً.