عند الحديث عن المواقع الأثرية في أي بلد، فإن الصورة التي تتبادر إلى الأذهان تكون ساحرة: أطلال شامخة تروي قصص الحضارات، ومعالم تاريخية تحكي أمجاد الماضي ، الواقع في كثير من الأحيان يكون مختلفًا، حيث تفتقر بعض هذه المواقع العظيمة إلى الحد الأدنى من الخدمات ، التي تجعل تجربة الزائر أكثر راحة ومتعة.
في الأردن، كما في العديد من الدول، يعاني كثير من المواقع الأثرية التي هي كنوز حقيقية يتوجب رعايتها والحفاظ عليها .. تعاني من نقص في الخدمات الأساسية، كدورات المياه النظيفة، وأماكن الاستراحة، واللوحات الإرشادية الواضحة. ومع ذلك، فإن الحل ليس في مجرد إنشاء مرافق جديدة، بل في إدارة هذه الخدمات بشكل مستدام، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم دون إشراك القطاع الخاص بفاعلية.
فأين تكمن المشكلة؟
الزائر الذي يصل إلى موقع أثري يتوقع أن يجد بيئة منظمة ومريحة، لكنه غالبًا ما يصطدم بواقع آخر بمثقل في نقص حاد في النظافة في بعض هذه المواقع بسبب غياب فرق صيانة دائمة، وعدم وجود مرافق مناسبة، ما يجعل الزيارة متعبة، خاصة للعائلات وكبار السن.
والافتقار إلى الخدمات السياحية، مثل المطاعم والمقاهي، مما يجبر الزوار على المغادرة سريعًا بدلًا من قضاء يوم كامل في الاستمتاع بالموقع.
هذه المعضلات ليست مستحيلة الحل، لكنها تتطلب نهجًا مختلفًا في التعاطي ، حيث لا يكون الدور الحكومي مقتصرًا على إدارة المواقع، بل على وضع الأطر التنظيمية المناسبة التي تتيح للقطاع الخاص الاستثمار فيها، مع ضمان الجودة والحفاظ على الطابع الأثري والتاريخي.
ولعلنا نتابع التجارب الناجحة في مناطق اخرى لنستلهم منها ،فالنظر إلى تجارب الدول الأخرى قد يكون مفيدًا في هذا السياق. ففي مصر، على سبيل المثال، شهدت منطقة الأهرامات طفرة كبيرة بعد إشراك شركات خاصة في إدارة الخدمات، حيث تم إنشاء منطقة متكاملة تضم مطاعم ومقاهي ومرافق حديثة، مما جعل زيارة الأهرامات تجربة أكثر راحة وجذب المزيد من السياح.
وفي إيطاليا، نجد تجربة أخرى لافتة في مدينة بومبي الأثرية، حيث تم منح شركات خاصة امتياز تشغيل بعض المرافق داخل الموقع، مثل محلات بيع التذكارات والمقاهي، مع التزام هذه الشركات بمعايير محددة تضمن الحفاظ على الطابع التاريخي للموقع.
أما في الأردن، فإن تجربة تطوير الخدمات في مدينة البتراء قد تكون مثالًا على نجاح الشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث تم إدخال تحسينات كبيرة في وسائل النقل داخل الموقع، مثل العربات الكهربائية، بالإضافة إلى تطوير الفنادق والمطاعم القريبة، مما جعل الزيارة أكثر جاذبية للسياح.
فما الذي نحتاجه اذن في مواقعنا الأثرية لحماية هذه الكنوز وزيادة التسويق لها وتعظيم قيمتها عبر اعداد متزايدة من الزوار ..؟
المطلوب ليس فقط بناء مرافق، وإنما إدارة مستدامة تضمن تشغيلها وصيانتها بشكل مستمر، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بإشراك القطاع الخاص في عملية التطوير. والحلول التي يمكن تنفيذها تشمل:
• إنشاء مرافق حديثة وإدارتها من قبل شركات متخصصة، مع الالتزام بمعايير الجودة والنظافة.
• توفير خدمات سياحية متكاملة، مثل الإرشاد السياحي الإلكتروني، والمطاعم، ومتاجر التذكارات.
• تعزيز الأمن والسلامة من خلال تركيب كاميرات مراقبة وإضاءة مناسبة، وإنشاء عيادات إسعافات أولية.
• تقديم تسهيلات لذوي الاحتياجات الخاصة لضمان تجربة سياحية شاملة للجميع.
ان القطاع الخاص الان هو جزء من الحل لا المشكلة فالبعض قد يتخوف من إشراك القطاع الخاص، ظنًا أن ذلك قد يؤدي إلى رفع الأسعار أو تحويل المواقع الأثرية إلى مشاريع تجارية بحتة. لكن التجارب العالمية أثبتت أن التنظيم الجيد والإشراف الحكومي يمكن أن يضمن تحقيق توازن بين توفير خدمات ذات جودة عالية، والحفاظ على هوية الموقع الأثري.
إذا أرادت الدول الاستفادة الكاملة من كنوزها الأثرية، فإن الوقت قد حان لإعادة النظر في طريقة إدارتها، والانتقال من نموذج يعتمد فقط على الجهود الحكومية، إلى نموذج أكثر شمولية يعتمد على شراكة حقيقية مع القطاع الخاص. عندها فقط، ستتحول المواقع الأثرية من أماكن مهجورة تفتقر إلى الخدمات، إلى وجهات سياحية عالمية تضج بالحياة، وتروي قصص الماضي بأسلوب عصري يجذب زوار المستقبل.