*
الثلاثاء: 04 فبراير 2025
  • 04 فبراير 2025
  • 08:25
حرب باردة أمْ تنافُس مُشتعل؟
الكاتب: د. عاصم منصور


في نهاية الشهر الماضي، فاجأت الشركة الصينية الناشئة «DeepSeek» العالم بإطلاق نموذج ذكاء اصطناعي متطور، أحدث ضجة هائلة تجاوزت الأوساط التقنية إلى الأسواق المالية، وأدى إلى خسائر ضخمة في سوق الأسهم الأميركية، قُدِّرت بأكثر من تريليون دولار في غضون ساعات؛ فيما وصفته وكالة «رويترز» بأنه «حمّام دم».

هذا الحدث لم يكن مجرّد إعلان تِقني، بل زلزال أعاد تشكيل موازين القُوى في سِباق الذكاء الاصطناعي العالمي، ودفع الآلاف من الباحثين والخبراء إلى تحليل الابتكار الصيني الجديد، في مُحاولة لفهم أبعاده وتأثيراته المُستقبلية، لكن بدلًا من تقديم إجابات واضحة، ولَّدَ المزيد من الأسئلة حول مُستقبل الذكاء الاصطناعي، وحدود تفوّقه المُحتمل.
فالتَطور في مجال الذكاء الاصطناعي يتسارع بوتيرة غير مسبوقة، مدفوعًا بالسَّعي للوصول إلى «الذكاء الاصطناعي الفائق» القادر على تجاوز القُدرات البشرية في جميع المجالات. هذه التّطورات تُبشِّر بتحولات جذرية في كل جوانب الحياة، لكنها في الوقت نفسه تُثير مخاوف عميقة حول مدى قدرة البشر على التّحكم بها، وُصولًا إلى ما يُعرف بـ «حالة التّفرد» حيث قد يصبح الذكاء الاصطناعي مُتحرِّرًا من السيطرة البشرية تمامًا.
لذلك، تتسابق الدول والشركات العملاقة للاستحواذ على زمام هذه التكنولوجيا، وضخ استثمارات فلكِيّة لتطويرها، ووضع الأُطُر القانونية التي تحكم استخدامها. وفي هذا السِّياق؛ جاءت المُفاجأة الصينية الأخيرة لتُعيد رسم المشهد التّنافسي، وتطرح تحدِّيًا غير مسبوق أمام الشركات الأميركية المُهَيمِنة.
ما قدّمته «DeepSeek» لم يكن مُجرّد نموذج مُنافس؛ بل كان بِمثابة قفزةٍ نوعيةٍ أربكت عمالقة الصّناعة في الولايات المتحدة والعالم، فقد طورت الشركة نموذجًا مفتوح المصدر، يتميز بالكفاءة العالية وقلة التكلفة في التّدريب والتّشغيل، ما يجعله مُتاحًا على نطاق أوسع، ويُشكّل تهديدًا مُباشِرًا للنّماذج الأميركية المُغلقة التي تُسيطر على السّوق.
الأكثر إثارة، أن هذا الإنجاز تحقَّق على يد فريق صغير لا يتجاوز 200 مهندس وعالم، مما يعكس تحوُّل الصّين إلى قوة ابتكارية حقيقية لا تكتفي بمجرد محاكاة النماذج الغربية، بل تُقدِّم حُلولًا جديدة في هندسة الذكاء الاصطناعي وطريقة توظيف الخوارزميات.
ولم تكتف الشركة بالإعلان عن النّموذج؛ بل نشرت أيضًا ورقة عِلمية توضِّح المنهجيات المُستخدمة في تدريبه، وهو ما يعكس توجُّهًا جديدًا نحو الشّفافية في البحث والتطوير.
لا يتوقف الحِراك الصّيني عند هذا الحد؛ فقد دخلت العديد من الشركات الصينية العام الجديد بسلسلة من الابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكية والبرمجيات المتطورة؛ مما يزيد من سُخونة التَّنافس العالمي.
ويبدو أن هذا السّباق لن يكون مجرَّد تنافس تِجاري، بلْ أشبه بـ «حرب باردة» تكنولوجية، تدور رَحاها بين الشرق والغرب، مع احتمال أنْ يستفيد منها المُستهلكون حول العالم، خاصَّة في الدول التي لم تتمكن حتى الآن من مُواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي.
من المُفارقات اللاّفِتة أن الصّين، وليس الولايات المتحدة، أصبحت اليوم المُدافع الأبرز عن ديمقراطية الذكاء الاصطناعي، من خلال توفير بدائِل مفتوحة المصدر تكسر احتكار الشركات الأميركية الكبرى. هذا الأمر دفع بعض الأصوات في الولايات المتحدة إلى تبنّي نظرية المؤامرة، مُعتبرين أن الصّين تسعى إلى تقويض الهيمنة الأميركية على هذا القطاع.
لكن رغم كل هذه التحولات، تبقى الولايات المتحدة في الصّدارة؛ بفضل قوتها البحثية وشركاتها العملاقة التي ما تزال تمتلك أفضل التّقنيات وأضخم الاستثمارات في هذا المجال.
ما حدث مع «DeepSeek» قد يكون مُجرّد البداية؛ فمن المتوقّع أن يشهد عام 2025 مزيدًا من التطوّرات المُذهلة، مع دخول شركات جديدة على خط المُنافسة، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ستتمكن الصين من فرض قواعد جديدة في عالم الذكاء الاصطناعي؟ أم أن الولايات المتحدة ستُعيد ترتيب أوراقِها للحفاظ على تفوُّقها؟ الجواب قد لا يتأخّر كثيراً.

صحيفة الغد

مواضيع قد تعجبك