بعدما ولي عثمان بن عفان رضي الله عنه خلافة المسلمين اثنتي عشرة سنة، وفي السنة الخامسة والثلاثين للهجرة قُتل شهيدًا على أيدي الخوارج، في سابقة كانت صفعة من صفعات الدهر، وجرحًا غائرًا في جسد ووجدان الأمة لم يندمل للآن. فالمقتول ظلمًا لم يكن خليفة المسلمين فحسب، بل كان زوج بنتيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا النورين، وأحد الستة الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ومن السابقين الأولين للإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.... إلى غير ذلك من فضائله الجمّة، التي لو استطردنا في ذكرها لأتت في مُصنّف.
لكن السؤال الأهم هو: من هؤلاء الذين قتلوا عثمان!؟ ومن أي طينة كانوا!؟ وكيف فعلوا هذه الفعلة الشنيعة!؟.
عند الرجوع إلى تلك الفترة العصيبة من عمر الأمة، ودراسة طبيعة أولئك الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، سنجد أنهم كانوا نُزّاع قبائل، وغوغاء، وقومًا لم يهذّبهم الإسلام، ولم تكن فيهم مروءة العرب. وصحيح أن القادح الأول لشرارة هذه الفتنة كان عبد الله بن سبأ اليهودي المُدّعي للإسلام، لكن متّبعيه هؤلاء على غيّه، لم يكونوا أفضل حالًا منه. فهم في الحقيقة كما يقول الدكتورعماد الدين خليل: "كان معظمهم من دعاة القبلية التي ترفض النظام، والسلطة والالتزام، وتميل إلى العودة بالأشياء والأمور إلى أدبارها، في حركة رجعية إلى الوراء".
فمشكلتهم لم تكن مع عثمان رضي الله عنه، ولم يكن لهم أدنى حق في أي شيء من الأمور أخذوها عليه، بل عند الرجوع قليلًا للوراء قبل حادثة مقتله رضي الله عنه، سنجد أن الذي قاموا ينادون باسمه وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج إليهم وحاججهم أثناء محاصرتهم للمدينة، ودافع عن عثمان رضي الله عنه ،وردّ عليهم شبههم التي افتروها عليه، ولمّا علم أنهم لم يحركهم إلى الشر والفتنة، صاح بهم وقال: "لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة ، وذي خُشب والأعوص، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا، لا صبحكم الله".
وكل ما في الأمر، أن هؤلاء لم تكن لهم عقول ولا أفهام، ولا مروءة، ولا نخوة ولا نقاء إسلام، همهم التخريب وهدم البنيان لا شيء آخر، وفي كل زمان وعصر، يتكرر ظهور مثل هذه العينات من المفسدين، ولو بحثت في أصل كل فتنة على طول تاريخ الإسلام، ستجد شرارتها الأولى مقدوحة من مثل هؤلاء، إمّا مزعزعين لفكرة لُحمة البنيان الإسلامي ومحاولة هدمه، أو عن طريق الابتداع في الدين، ورفض قطعيات الوحي، وتحكيم عقولهم القاصرة فيها. وعليه فإننا نفهم سر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان موصيًا قبل سنوات مما حدث: "يا عثمان، إن الله مقمصك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه"، وكأننا به يقول له: اثبت على الحق، لأن ثباتك عليه يعني وجود رجال بعدك يحملونه ويتمسكون به كما تمسّكت، والأسد الجريح إذا نهشت جسده الكلاب، يبقى أسدًا وتبقى هي كلابًا.