معالجا أوجه الخلل التشريعي، و فاحصا لمواد القانون تحت مجهر الفقيه الحاذق يرى ما لا يرُى ، كاشفا عن أدق تفصيل في النصوص ، تصدى عميد الفقه الجنائي -، الاستاذ د. كامل السعيد ، في كتابه بعنوان ، شرح قانون الجرائم الإلكترونية، الذي يقع ٢٣١ صفحة ، وشرفني المؤلف بإهداء خاص-
لمهمة شاقة يصعب على رجل وحده ان ينهض بها على النحو الذي قام المؤلف .
اخضع المؤلف مواد قانون الجرائم الإلكترونية لفحص قانوني ، فعرف مصطلحاته القانونية واللغوية منها على سبيل المثال :
الاستخدام و الإنشاء و الترويج و التحريض و المساعدة و الحض
وغيرها مما لا يتسع المقام لتفصيله.
ثم تناول بالبيان المفردات الفنية :
الشبكة المعلوماتية ، تقنية و نظام المعلومات ،
الغاء البيانات و اتلافها و تعديها و تغييرها و نسخها و نشرها و اعتراضها وتشفيرها وحذفها وإفشائها وعدا ذلك من مفردات .
كما عرض تفصيلا للجرائم
الجرائم ، وأركانها ، وعناصرها من المادة ٣ التي تناولت الدخول دون وجه حق إلى الو سائل الإلكترونية وحتى المادة ٢٦ في حكم ارتكاب جريمة لم يرد عليها نص في قانون الجرائم الإلكترونية وان ورد في قانون آخر ،
يبين المؤلف الحاجة إلى اقرار قانون ينظم الجرائم الالكترونية، نظرا لظهور افعال جرمية لم تتناولها نصوص العقوبات العام ، حماية للحقوق المعتدى عليها بالوسائل الإلكترونية ، إلا انه يضع إصبعه على المثالب التي وقع فيها المشرع ،
في شح التعريفات ، و ضعف الصياغة ، واستعمال المفردات العامة ، و الكتاب يعتبر دليلا إيضاحيا للمشتغلين بالفقه و القضاء و المحاماة .
و على مسطرة الفقه الجنائي، وضع المؤلف الجرائم الواردة في القانون ليظهر للقارئ :
اولا : افتقار بعض الجرائم إلى ركنها المادي ، تاركا المشرع ذلك للمحاكم المختصة وهو خروج على مبدا فصل السلطات ، وتخَل ٍّمن المشرع عن سلطته ، وتنازلا عن اختصاصه.
, ومن ذلك الأفعال التي من شأنها اغتيال الشخصية مثالا .
فاغتيال الشخصية غير معرف قانونا او فقها ،و لم يحدد المشرع هذه الأفعال ، وهي الركن المادي للجريمة .
ورغم ان المؤلف قد اجتهد في تحديد عناصر الأفعال ،لكنه اكد ان عدم تحديد المشرع للأفعال في نص المادة يعني عدم تحديد الركن المادي و يترتب عليه عدم توافر الركن المعنوي القائم على العلم و الارادة المسبقة ،
فاذا لم تكن الأفعال محددة بنص ، فكيف يمكن ملاحقة المشتكى عليه بالعلم المسبق بها ؟ وهي غير منصوص عليها في مواد القانون ؟؟
و ( لا عقوبة و لا جريمة إلا بنص)
وكذلك الشأن في الركن المادي لجرائم المادة ١٧ كالفتنة و النعرات و السلم المجتمعي و الكراهية فهي مفردات مطاطة مرنة .
وذلك يجعل تطبيق هذه النصوص امرا عسيرا ، فيشترط للنص العقابي
وفقا لمباديء الفقه الجنائي ، ان يكون ذا مفهوم محدد جامع مانع
و لا تصلح الألفاظ العامة لملاحقة الأفراد كيفما اتفق .
كما ذهب الفقية السعيد إلى انه لا يكفي في جرائم الفتنة و استهداف السلم المجتمعي او الحض على الكراهية توافر القصد العام بل لا بد من قصد خاص بخلق فكرة العنف واحداث الضرر ما بعد ارتكاب هذه الأعمال .
واذا اخذنا بعين الاعتبار ان بعض هذه الجرائم المنصوص عليها في القانون ، تصل عقوبتها للأشغال المؤقتة ، أدركنا خطورة مثالب هذه النصوص ، في الصيغة التي وردت بها .
ثانيا :
وقع المشرع في عيب عدم المعقولية ،
فهو اذ نص في المادة ٢٦ على ان استخدام الو سائل الالكترونية لا يعتبر ظرفا مشددا ،ذهب في الوقت نفسه إلى فرض عقوبات مغلظة على الأفعال المرتكبة بواسطة احدى
الو سائل الألكترونية تزيد عن مثيلاتها في الجرائم غير الإلكترونية !!
وهذا التغليظ في العقوبة انتهاك لمبدأ (احترام العدالة التشريعية ) ،.
وهنا يبرز مفهوم جرى عليه الفقه المعاصر ،
المنطق التشريعي و المعقولية والانسجام في مخاطبة المكلفين ، فينبغي ان يكون المشرع منطقيا في توقيع العقوبة.
و نشير هنا إلى مدوالات اعضاء مجلس الامة من التي عبرت ضيق الصدور ، جراء انتقادات مشروعة لأدائهم و لو كانت لاذعة ، فالشخصية محل للنقد المباح من حيث الأصل .
وعليه فان المبالغة في العقوبات ، تتحول إلى ظلم ذي طابع انتقامي .
ثالثا :
الخروج عن القواعد العامة ، حيث ذهب القانون إلى المساواة بالعقاب بين المتدخل و المحرض و الشريك، و المساواة بين مرتكب الجريمة التامة و الجريمة الناقصة.
ويعد هذا الاتجاه خروجا عن مبدا العدالة التشريعية.و قواعد الإنصاف .
رابعا:
عدم مراعاة الخط الاحمر للتشريع ، في مخالفة الدستور ، ومن ذلك فرض عقوبات اشد على الفاعلين من العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات بما يتعارض مع المادة ٦/١
من الدستور التي تقرر ان الأردنيين امام القانون سواء
بما يشوب النص بشبهة عدم الدستورية للإخلال بمبدأ المساواة
لاسيما ان استخدام الو سيلة الإلكترونية لا يعتبر ظرفا مشددا بنص القانون ذاته، حتى يصار إلى تغليظ العقوبة على ذات الأفعال إذا ارتكبت بواسطة وسيلة إلكترونية ، عما هو في عداها بوسائل غير إلكترونية
إضافةً إلى جملة من الملاحظات لا يمكن إيجازها بمقال .
كما تضمن الكتاب عددا من التوصيات الهامة ، منها، ضرورة اصدار نظام تنفيذي لقانون الجرائم الالكترونية، و ضرورة انشاء محكمة مختصة بالجرائم الإلكترونية .، وضرورة الدراسات الشاملة و القوانين
العصرية .
خلاصة القول ان القانون بصيغته الحالية ،يحتاج جملة من التعديلات ،
، لكي تكون نصوصه قابلة للتطبيق تتوافر فيها مباديء العدالة ، والا فسيواجه القضاة و المحامون حالة من الابهام التشريعي و المفردات الفضفاضة، و العقوبات المغلظة .
، ان صناعة التشريع لا تنتهي عند سنه بل ان اعادة النظر في القوانين تكشف عن اوجه النقص في المعالجة كما ان التشريع قد لا يحقق الغاية منه ويسمى القصور الغائي للتشريع ومن هنا تبررز أهمية المراجعة المستمرة ،
والدراسات المستدامة و المستفيضة، بما يستوجب التعديل او التغيير ، او الحذف ، وتقوم على ذلك دراسات تعدها المحاكم و الدوائر المعنية بتطبيق القانون و الغرف التشريعية ،
ووزارة العدل ونقابة المحامين، ومركز حقوق الانسان وغيرها من المؤسسات المعنية بسَنِّ التشريع .
ان اعادة صناعة التشريع امر ضروري ، إذا تبين فيه القصور ، او الاخلال بمبدأ الامن القانوني بما يتطلب التصحيح التشريعي .
وان المؤلف ، لم ينهض وحده بجهد الفقيه فحسب ، و لكنه تجشم العناء ، ليقدم ملاحظاته لكل من يهمه الأمر
وختاما ، فقد اخترت العنوان بلا استئذان ، ليس على سبيل اقتراف الجرم لتوضيح الجريمة ،وانما لاقول لئن كانت الجريمة الإلكترونية قد ارهقت فكر المؤلف ، وأرقت نومه ، فقد عالجها خير علاج ، ولم يدع في القانون شاردة و لا و اردة إلا و تناولها بمبضع الجراح .