إذا ذهب اهل العرفان لاعتبار الحيرة (مقاما ) ، فانها في العمل القضائي تمحيص و تنقيب، يسعي لإزالة الالتباس ورفع الغموض وصولا إلى اليقين القانوني ، ذلك اليقين الذي ينبىء عن عناء القاضي وسعيه المخلص ليكون الحكم عنوان الحقيقة .
فبين ازدحام قوانين معدلة و اخرى ملغاة ، و بين المقصد الأسمى لمراد المشرع في اقامة العدل وتحقيق مصالح المواطنين ، يُقلِّب القاضي نظره في حيرة العارف ، كالغواص ، الذي ينشد الأعماق ، ليصل إلى لب المسألة المعروضة عليه ، وما تكريس الامن الاجتماعي ، و الاقتصادي إلا ثمرة لهذا الفكر المسترسل وفق ضوابط التشريع و محدداته .
إن مغزى المقال ، إبراز مآلات الحكم القضائي في المجال ، الاجتماعي، او الاقتصادي ، كما هو الشأن في المجال التعاقدي او الإدراي .
فلا ينتهي حكم القاضي إلى جلب مصلحة ، ينشأ عنها مفسدة اكبر ،
او يفضي إلى مشقة لا تجلب التيسير ، فتضيق واسعا وتحجر شاسعا رحيبا .
وإن اندفاعي القانوني في اقتحام هذا الشأن الخطير اثرا ، هو استكمال لسلسلة مقالات يجمعها نظر مقاصدي واحد وهي ( محاكم الملك ، قاض فوق الخوف ، حالة العدالة في الأردن ، المحكمة الدستورية الامل المفقود والحلم المنشود ، من الذي يعيق الرؤية الملكية لتطوير القضاء ، نداء عبر السلطة الرابعة الى السلطة التشريعية ، من الذي يسعى لإعاقة الرؤى الملكية لتطوير القضاء ،
،ابواب القصر لا تغلق ، العونة)
اعود فاقول ، إن الخبرة الطويلة للقضاة ، تنبه على الدوام ، إلى يقظة القضاء وضميره الحي (فالقضاء ضامن ) .
ولئن كانت قاعدة ( الامام ضامن ) فقهية في اصلها ، تعني ان الامام , يتحمل عبء الحفظ و الرعاية ، لمن يصلي خلفه ، و حَسْبُ من وراءه الاتباع ، و الاقتداء ، فالمصلون في عهدة إمامهم .
فان القضاء ايضا ضامن ، حفظ حقوق الرعية وما تعدد درجات التقاضي وقواعد الاجراءات ، واستقلال القضاء في حكمة، إلا غيض من فيض الضمانات التي تغرس في نفوس الرعية الطمأنينة لهذا الضمان القضائي في عدالة الاحكام .
وقد اردت بمقالتي على حلقتين ، ان أميط اللثام، عن بعض الاحكام التي تحقق هذا المعنى ،في مآلاتها.
لينجلي جوهر العمل القضائي ودوره في استقرار الحياة الاجتماعية و البيئة الاقتصادية ، بعيدا عن متاهة من الإجراءات، الحكومية ،
فيصيب الحكم القضائي ، كبد الحقيقة و يعالج مواطن الخلل بلا مواربة للأبواب و أنصاف في الحلول .
لن اقف على المقاصد الكبرى للحكم في جمل تقليدية ، كالعدل اساس الملك ، و القضاء النزيه ، او الملاذ الأخير ، فهذه العناوين ، إذا لم يرافقها عرض لأثرها في مضامين الاحكام القضائية، تكون جملا تجميلية معزولة عن الواقع .
وحتى لا اثقل على القاريء سأتناول ، في الحلقة الثانية بعون الله ، تطبيقات قضائية لها أبلغ الاثر في تحقيق المقاصد الكبرى المشار اليها ،
كيف تعاملت الاحكام القضائية، مع حيثيات الدعوى؟ و صولا إلى الحلم القريب بتحقيق العدل عبر الحِلْم والأناة ،
ونأت بنفسها عن الشرر البعيد ، في حال التسرع و العجلة .
، و للحكم بقية ، في أروع المباديء التي أرساها قضاؤنا الاردني ، يبتغي وجه الله ومصالح العباد في نظره البعيد ، وصبره الطويل ، وعمل دؤوب خالص ، مرضاةً لمولاه .