للمرة الثالثة على التوالي يكرر الرئيس الأميركي كلامه عن استقبال الأردن ومصر للغزيين، وهو هنا يفترض من حيث المبدأ أن الغزيين سيتجاوبون جميعا مع تهجيرهم من القطاع.
افتراضه بتجاوب الغزيين له صلة بعدة أمور: أولها، أن العائدين إلى شمال القطاع وجدوه مدمرا بشكل تام وقد يتجاوبون- وفقا لاعتقاده- بالخروج في حال جاءت سفن كبرى إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط لنقلهم ضمن ترتيبات معينة، بذريعة إعادة بناء القطاع، وهم يدركون ونحن ندرك أن من سيخرج لن يعود، وإذا قمنا بقياس المخطط على خروج عشرات الآلاف من الغزيين خلال الحرب من داخل القطاع، فسيكون القياس خطيرا هنا، لأن الذين خرجوا غادروا بسبب الحرب، وقد توقفت الآن، ولا يمكن القياس هنا، لأن أغلب أهل غزة لديهم أرض وعقارات وبيوت، ولا يمكن تركها حتى لو مهدومة، من أجل أن يتم بناء مستوطنات جديدة عليها تمهيدا لشطر القطاع، والسيطرة على حقول الغاز قرب شواطئ غزة الشمالية.
لكن تثبيت الغزيين ليس بالكلام، ولدينا قوة هائلة يمكن الاستثمار بها أي وجود الغزيين ذاتهم بكل صبرهم وصمودهم، إضافة إلى موقف الأردن ومصر، وبناء موقف عربي كما جرى في اجتماعات القاهرة السبت، والتحشيد الإسلامي والدولي لإبطال أي مخططات مقبلة.
الخطر يكمن في أن واشنطن لن تسمح بإعادة الإعمار، ما لم يخرج أصحاب العقارات والأرض في الشمال، ومن المتوقع أيضا تجفيف المساعدات وخفضها لتصنيع بيئة طاردة داخل القطاع تصب نحو التشجيع على الخروج، وهذا أمر علينا التنبه إليه جيدا خلال المرحلة المقبلة، خصوصا، مع قرب المرحلة الثانية من المفاوضات مع إسرائيل، حيث المعركة الأكبر حول من سيدير القطاع، وهذه المعركة قد تؤدي في الأساس إلى عودة الحرب من جهة ثانية.
في بعض التأويلات كلام عن أن الرئيس الأميركي لا يريد تهجير الغزيين أصلا، لكنه يريد رفع السقف ضد الأردن ومصر، لإجبارهما على التدخل بإدارة القطاع، بدلا من حماس، وإرسال قوات عسكرية ومدنية، وتولي السلطة الفعلية داخل القطاع، ما دام الأردن ومصر لا يريدان استقبال أحد، وهذا السيناريو يمتد إلى الضفة الغربية في مرحلة ما، بحيث قد لا تريد واشنطن تهجير الفلسطينيين من داخل الضفة، لكن استدراج الأردن لإدارة ما تبقى من الضفة الغربية في حال تم تفكيك سلطة أوسلو، وكأن رفع سقف التهديد بالتهجير يراد منه الضغط من أجل الوصول إلى صفقة نحو صيغة وسطى، هي استدراج الأردن ومصر إلى إدارة غزة والضفة بدلا من سيناريو التهجير الأكثر كلفة، وهذا مجرد رأي قابل للنفي أو التأكيد، مع معرفتنا بوجود محاذير أردنية ومصرية كثيرة بشأن مخطط إدارة المنطقتين.
واشنطن وتل أبيب بيدهما أوراق ضاغطة على دول المنطقة، وتحديدا الأردن ومصر، وعلى صعيد الأردن يأتي الضغط أميركيا بالمساعدة المالية، واحتمال فرض رسوم وضرائب على الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة التي اقتربت من ملياري دينار نهاية عام 2024، إضافة ألى ما يتعلق بتدفق الغاز والماء من فلسطين المحتلة عبر الاحتلال إلى الأردن، وما يرتبط بمحاولة تجفيف المساعدات العربية والدولية، ومحاولة الضغط عبر صندوق النقد الدولي، وتصنيفات الأردن وغير ذلك من وسائل ستحاول واشنطن استعمالها للضغط على البلد، بما يوجب علينا أولا عدم الذعر، وإدارة الموقف بطريقة صحيحة.
لقد قيل مرارا إن نقاط قوة الأردن متعددة، من كلفة الجغرافيا مع الاحتلال وما تعنيه على صعيد المهددات المفتوحة، وصولا إلى الوجود العسكري الأميركي في الأردن، مرورا بكلفة خلخلة الأردن على صعيد أمن الإقليم، وقضايا ثانية كلها تصب لمصلحة الأردن في وجه هذه المخططات، مع الإدراك هنا أن الأردن أيضا قد لا يميل إلى المواجهة والدخول في معركة كسر عظم وقد يلجأ إلى تحالفاته العربية والإقليمية والأوروبية في وجه هذا العبث الجنوني.
مشكلة الفلسطيني ليست مع الأردني ولن تكون مشكلة الأردني مع الفلسطيني ولن تكون، ومشكلتنا جميعا مع إسرائيل، حتى لا نأكل لحم بعضنا البعض وسط هذا المناخ، فيما مخطط واشنطن بجر الأردن لإدارة القطاع مع مصر عبر سيناريو التهديد بالتهجير إليه، أو حتى جره لإدارة ما تبقى من مناطق الضفة عبر سيناريو التهديد بالتهجير إليه.
صحيفة الغد