*
الاربعاء: 22 يناير 2025
  • 22 يناير 2025
  • 09:23
حين صمتت المدافع وتحدثت الصورة
الكاتب: د. عاصم منصور

 

بعد خمسة عشر شهرا من المعارك الشرسة والمجازر التي لم يشهد لها تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية مثيلا؛ تم الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، وصمت دوي الانفجارات التي كانت تعصف بحقد دون توقف، وخلت سماء غزة لأول مرة من ضوضاء الطائرات وطنينها، لتتجه العدسات إلى مشهد مُهيب أذهل العالم فمن أنفاق المدينة المدمرة ومن بين رُكامها خرج المُقاوِمون، بزيهم العسكري الأنيق وكامل عُنفوانهم، كما لو كانوا بصدد استعراض عسكري في زمن آخر، ورؤوسهم مرفوعة تتسامى فوق الركام. كان مشهدا يبدو وكأنه من عالم آخر، في تناقض صارخ مع الفوضى والدمار الذي عم المكان، كما طائر الفينيق ينبعث من تحت الرماد أكثر قوة وجمالا يحملون معهم نور الصمود ووهج الكرامة.

هؤلاء المقاتلون، الذين قضوا شهورا طويلة يُقاتلون في عتمة الأنفاق؛ وقفوا الآن في النور بحضور مهيب، بزيهم الرسمي، وكامل قيافتهم وانضباطهم، وأصابعهم على الزناد؛ بينما وقفتهم المُستقيمة والواثقة تحكي قصة صمودهم. في تلك اللحظة، لم يكونوا مجرد جنود؛ بل رموزا للصبر، والتضحية، والروح الإنسانية التي لا تنكسر.
هذا المشهد، الذي التقطته عدسات المصورين وحفر في ذاكرة من شهدوه، هو شهادة على سطوة الصورة التي أتقنت المُقاومة توظيفها في المعركة، فصورة واحدة يمكن أن تتجاوز آلاف الكلمات، وتنقل مشاعر وسرديات تتردد أصداؤها عبر الزمن. مشهد هؤلاء المقاتلين، وهم يخرجون من الخنادق بِأناقة وكرامة، هو أكثر من مجرد لقطة إنه بيان، يُخبر العالم أنه حتى في وجه المعاناة التي لا توصف، يمكن للإرادة أن تنتصر.
لقد سعت قوات الاحتلال طوال الأشهر الماضية بلا هُوادة إلى صياغة صورة استسلام وهزيمة للمقاومة، من خلال الدعاية، والصور المفبركة، والروايات الموجهة بعناية، وحاولوا تصوير المُقاتلين على أنهم مهزوزون، وغير منظمين، وعلى وشك الانهيار. لم تكنْ المعركة تُخاض فقط على الأرض، بل أيضا في عدسات المصورين، التي سعى المحتل من خلال امتلاكه أسرارها ومفاتيحها إلى تقويض معنويات المُقاومة والشعب الذي يحتضنها.
فعلى مر التاريخ، كانت الحروب والمقاومة تختزل في النهاية في صورة واحدة، صورة تحمل في طياتها كُل الألم، والصُمود، والإنسانية التي عاشتها الأجيال. تماما كما أصبحت صورة الطالب الصيني الذي وقف وحيدا أمام دبابة في ساحة تيانانمن رمزًا عالميًا للشجاعة في وجه القمع، أو صورة الطفلة الفيتنامية التي تَهرُب عارية من ألسنة النيران خلفها بعد قصف النابالم رمزا لمعاناة المدنيين في الحُروب. هذه الصور لم تكن مجرد لقطات عابرة، بل أصبحت أيقونات خالدة، تلخص قصصا كاملة وتُبقيها حية في ذاكرة البشرية.
المقاوِمون الذين خرجوا من خنادِقِهم ورؤوسهم مرفوعة، كانوا يُدركون ذلك، فمظهرهُم لم يكن فقط لأنفسهم، بل للعالم الذي كان يترقب تحت وطأة الدعاية الصهيونية لحظة انكسارهم لتكون الرسالة صارخة «نحن أبناء هذه الأرض وها نحن نُبعَث مرة أخرى من رحمها في كامل عنفواننا».
بينما نتأمل في هذا المشهد المُهيب، نتذكر دور الصور في تشكيل ذاكرتنا الجماعية؛ فهي ليست مجرد سجلات للماضي، بل جُسور للمستقبل، تحمل معها دروسا ومُعاناة وانتصارات من سبقونا.
مشهد المُقاتلين المُقاومين وهُم يخرجون من خنادِقهم بِزيِهم الأنيق
ورؤوسهم المرفوعة؛ قد يُصبح هو الآخر رمزا خالدا وصورة تختزل 470 يوما من المعاناة، وتروي للعالم قصة الصمود والكرامة التي لا تنكسر حتى في أحلك الظروف؛ فالحروب تنتهي لكن تبقى الصور، شاهدة على ما حدث، وناقلة للرسائل التي لا يُمكن للكلمات وحدها أن تعبِر عنها.

الغد

مواضيع قد تعجبك