لم أكتب منذ حين ؛ وربما منذ دهر … مختاراً بعد اكراه … او ربما مختاراً بعد تسيير ! لكن الصور القادمة من غزة تُنطق الحجر ؛ وتقهر الظلم … !
هكذا هي الصورة : كل شيء مدمر ؛ الخراب في كل مكان ؛ ثم يأتيك صاحب الدار متمدداً على انقاض بيته بين الاف الأطنان من ركام الحي ليقول للكاميرا : رح نعمرها !
هكذا هو الصوت : طفلة ربما لم تبلغ العشر سنوات يمد اليها احد ابطال تسجيلات الحرب التوثيقية من الأبطال جباري الخواطر الذين يرسمون بسمة الأطفال في الحرب … يمد اليها يداً بها دفتر … ويداً بها ٢٠ شيكل ويقول لها : شو بتحبي تربحي المصاري ولا دفتر تتعلمي فيه ؟ يأتي صوتها واثقاً يهز بنيامين نتنياهو قائلة : دفتر أتعلم فيه !
هذه هي الروح … طفلتين يفاجئهن المذيع بجائزة ؛ إحداهن " ثالث ترفيع رابع " مع وقف التنفيذ بسبب الحرب … وصديقتها تصغرها بصف… سألهن عن لون السماء وقال لهم ربحتم جائزة … أعطاهما كيسين وقال لهما معكما ٣٠ ثانية خذوا ما شئتم من هذه البسطة " سكاكر وشيكولاتة وحلويات " … لم أتمالك نفسي … أي روح هذه : لا اراديا قامت كل فتاة بتعبئة كيس الأخرى !
هكذا هو المشهد …. عاد الشبان إلى حارتهم … تركوا بيوتهم التي تحولت إلى خرابات ونظفوا اول ما نظفوا مدرسة " شفيق العبيسي" ! هذا شهد يريد للحياة ان تعود فوراً : علم وإيمان ونهضة ! لم يتهافت الغزيون على الاكل بعد دخول المساعدات بل تهافتوا على سباق الإعمار !
هذا هو الصمود : له صوت وصورة وروح ! تسأل أي شخص في غزة فيجيبك " رح نعمرها " والله هذا الشعب يخلد في أساطير التاريخ ! نحن الذين كنا نتابع على شاشات التلفاز مللنا وسألنا السؤال العفوي : هل كان فعل حماس يستحق كل هذا الموت ! أجاب الناس على هذا السؤال اليوم هناك في غزة عبر الاف الناس الذين يعودون إلى الشمال في مشهد مهيب …. مشهد يشبه نفرة الحجيج من عرفات … يعودون إلى العدم لكنهم يعودون إلى حيث كانوا وما بدلوا تبديلاً!
كان بإمكان كل هؤلاء ان يعيشوا في بيوت لو رضوا بالخروج من غزة … لكنهم أجابوا على السؤال : خيمة في فلسطين ولا قصرٌ على حدودها! مشاهد الفرح من شوارع غزة تجيب على اعقد التساؤلات ؛ هذا شعبٌ يحب الحياة ما استطاع اليها سبيلاً
ما أجملك يا غزة … رح نعمرها! بهذه الجملة لخص الشعب الفلسطيني خطته لما بعد الحرب ! رح نعمرها ! قالوها غير آبهين بآلاف رجال الاستخبارات العالمية الذين يجتمعون بالغرف المغلقة حول العالم ليناقشوا ( اليوم التالي بعد الحرب في غزة ) !
هل يفهم العم ترامب ذلك ؟ لا يحتاج الغزي رفضاً أردنياً للحل على حساب الأردنيين … الغزي يرفض أصلاً ومن حيث المبدأ ان يتزحزح من ارضه شبراً واحداً …. هو لا يرفض الترانسفير فقط : هو يفضل الموت شهيداً على ان يتخلى عن شعاره المعجزة : رح نعمرها !
رح نعمرها ! قالوها ببساطة … هم لا يعرفون ان هذه الجملة هزت اعماق قلوبنا ؛ هم لا يعرفون انهم بهذه الجملة أسالوا دموع امهاتنا ؛ هم لا يعرفون انهم بهذه الجملة فشعروا أبداننا …. رح نعمرها قالوها ومضوا ليبدأ العمران
أقسم نيابة عن الوطن العربي كله انكم ستعملونها يا ابطال الشرق وستعود غزة بهية عصية غنية بكم ! بحر غزة سيحمل رسائلكم إلى العالم : رح نعمرها ! وستقومون من تحت الركام وستؤسسون دولتكم فلسطين الحرة المستقلة وعاصمتها القدس! أطفالكم قادرين على كل ذلك !
هذا الشعب العظيم يستحق ان تكتب فيه الكتب ؛ وان يُنظم فيه الشعر … ألف قبلة على جبين كل غزاوي … الف قبلة على جبين كل ام فلسطينية تودع أبنائها كل يوم … ألف قبلة على جبين كل اب فلسطيني يبني وهو يعرف ان صاروخاً صهيونيا سيهدم ما بناه بلحظة … الف قبلة على جبين كل طفل بترت ساقه او ربما ساقيه وتعلم المشي سريعاً …. الف قبلة على جبين كل من تمسك بأرضه …. الف قبلة على كل شهيد في الحرب … وعلى كل نازح … وعلى كل صامد …. خيامكم لا ترموها : حولوها متاحف … بيعوها في المزادات العالمية … أرسلوها لنا لنشتم فيها رائحة قوتكم وصمودكم …. غطوا بها السماء وقولوا للعالم : لو تحولت فلسطين كلها إلى مخيم ستبقى فلسطين الوطن والحب والصمود !
رح نعمرها خاوة …. كما قلت حاجة غزاوية أصيلة …. والله محييك يالشعب الفلسطيني!