*
الخميس: 23 يناير 2025
  • 03 فبراير 2008
  • 00:00
حكاية من قرية النورس
الكاتب:
  في السنين البواكر من العمر كان والدي لا يزال فلاحا يحرث ارضه ويبذر حبّه ويحصد زرعه بيديه، وكان يسعدني دوماً ويزيدني اعتزازاً ان انتسب الى هذه الطبقة التي يغمس ابناؤها لقمة الخبز بعرق الجبين وعزم الساعد، وعندما كبرت وسمعت لاول مرة المغفور له وصفي التل يردد مصطلح ''ابناء الحرّاثين'' رفعت من سقف افتخاري بوالدي وبمهنته الشريفة، فرحت اكتب مسرحيتي التي عنونتها بـ''ولاد الحراثين'' وظلت أصوات أبطالها توقظني في الهزيع الأخير من الليل لأنهض واقفاً وانحني اجلالا واحتراماً للمفردات الوطنية في قاموس ''أخو عليا'' طيب الله ثراه. صحيح انها كانت حياة قاسية تلك التي عشتها أنا وعاشها معي الكثيرون من أبناء طبقتي، لكنني ارجو ان اكون صادقا اذا قلت بأنني ما شعرت يوما بأي حسد تجاه أي احد من ابناء الموسرين الذين هيأت لهم ظروفهم الاقتصادية ان يتقلدوا مناصب رفيعة في الدولة الأردنية، لعلمي ان ابناء الحراثين قد اخذوا ايضا نصيبهم من هذه المراكز، واكبر دليل على ذلك ''وزراء الذراع'' الذين ما تسلموا حقائبهم الا بسواعدهم. وظل ترفعي عن الحسد هذا يرافقني في مسيرة العمر الطويلة الى ان جاء يوم من الأيام اصغيت فيه الى حديث دار بين مراجع لاحدى الدوائر الحكومية وبين مدير عام تلك الدائرة الذي ألتقاه ببشاشة ورحابة صدر على غير معرفة مسبقة قال المراجع للمدير بعد ان لبى له مطلبه: أعرف يا حضرة المدير أنك من عشيرة ''الفلانات'' لكن لا أعلم من هو أبوك فيهم، فقال المدير: هل تتذكر يا عم مخازن النزاهة التي كان يملكها''أبو علان'' في قرية النورس؟ فقال المراجع: نعم اتذكرها، فأنت إذن ابن بندر التجار في قريتنا، لذلك ليس غريبا عليك هذا الخلق الرفيع الذي التقيتنا به، فقال المدير: على مهلك يا عم، انا لست ابن ابي علان صاحب المخازن الكبيرة، بل ابن ''وردان'' العامل الذي كان يعمل في مخازنه، هل تذكره. أجل، لقد تذكره المراجع وتذكرته معه، فكانت مفاجأة كبيرة ومدهشة لي، ليس لان ابن ذلك العامل صار مديراً عاماً ومسؤولاً كبيراً، فالكثيرون مثله والحمد لله صاروا وصاروا، ولكن هذا المديريقدم نفسه بكل فخر واعتزاز بأنه ابن ذلك العامل الذي كان يعمل في مخازن قرية النورس، وكان يمكنه ان يفتخر بالصدق والنزاهة والمكانة العالية التي يحظى بها أبوه لدى ابناء القرية، لكنه آثر أن يفختر بمهنته. لقد اصابتني الغيرة لاول مرة في حياتي من ذلك الرجل المفتخر بمهنة أبيه التي تشرف كل أردني، والتي حجمتني وأنستني افتخاري بمحراث والدي ومنجله وبيدر قمحه، فقلت في نفسي اذا كان لأحد أن يفتخر بأبيه فليفخر بواحد مثل ''وردان''، الذي ما كان يشيل الأحمال في مخازن النزاهة بقدر ما يشيل حمل الوطن وهمّه في أن يربي ويعلم أبناء مثل هذا المدير الذي يشّع جبينه نبلا وشهامة وعطاء وإباء، فهذا هو الإنتماء والكبرياء الوطني الذي يحرر شباب الأردن من ثقافة العيب، هذا هو الافتخار الصادق بالآباء الشرفاء وبمهنهم الشريفة، وكم كانت الحياة تبدو أجمل لو امتدت بوصفي التل ليسمع هذه الحكاية عن هذا العصامي الأردني الذي اتمنى لو يأتي يوم أراه فيه متقلداً أعلى المناصب في مهنته، فلو كان وصفي رحمه الله سمعها لأضاف إلى قاموسه الوطني ''أبناء العمّال'' إلى جانب ''أبناء الحرّاثين''. هاشم القضاة

مواضيع قد تعجبك