منذ آلاف السنين في الهضاب الممتدة شرق نهر الأردن عُرف شعبا موآب وبني عمون بصلابة الرأس وصعوبة المراس، لم يكونوا مجرد قبائل جبلية متمردة، بل قوى شرسة تقف في وجه التوسع وتقاوم الانصهار وتحتفظ بهويتها كما يحتفظ الصخر بصمته أمام المطر.
يروي التاريخ القديم أن موآب وعمون لم يكونا مجرد جارين لقوة ناشئة في غرب النهر، بل خصمين مراوغين يخططان ويهاجمانو يوقعان الخسائر ثم يتراجعان إلى جغرافيتهما الوعرة ،لم يكن عداؤهما دائما دينيا، بل وجوديا صراع على البقاء على الأرض و على السردية.
اليوم وبعد أن تحولت ربة عمون إلى عمان، وعاصمة موآب ديبون الى ذيبان ، لا يزال العناد حيا في التكوين السياسي لتلك البقعة، كأن الذاكرة الجينية لم تمت، كأن الأرض تعيد إنتاج الصراع لكن بملامح معاصرة.
في المشهد السياسي المحلي تظهر ملامح موآب وبني عمون في وجوه الانسان الذي لا يلين والشعب الذي يقاوم الامتصاص الثقافي، الهوية هنا ليست مجرد علم أو شعار، بل طبقة متجذرة في الوعي تنفر من الاستتباع وتنتفض حين يُمس جوهرها.
وفي الإقليم تبدو الروح نفسها حاضرة في صراعات أعمق، صراعات بين الانتماء والتبعية، بين المحور والمحور، بين من يريد إعادة تشكيل الجغرافيا وفق مقاسات التحالف ومن يصر على عناد التاريخ.
قد لا يحمل صناع القرار السياسي اليوم أسماء مثل ملك عمون أو حاكم موآب، لكن السياسات لا تكذب، العناد ذاته، الحذر ذاته، وحتى الضربة المباغتة ذاتها، ففي منطقة تمارس فيها القوى الكبرى اعادة الهندسة السياسية هناك من لا يزال يرد بلهجة الصخر.
ما بين مراكز القرار الحذرة والشعوب التي لا تستكين
يتكرر درس عمون وموآب لا أحد يُطوع الجغرافيا دون ثمن ولا أحد يُعيد رسم الشرق دون أن تعيد الأرض رسم ملامحه من جديد.
في زمن يتغير فيه النظام الدولي وتتمدد الفوضى تحت عباءة التحالفات، ربما من الحكمة أن نعيد قراءة الشعوب لا كأرقام سكانية، بل ككائنات لها إرث نفسي و حمض نووي سياسي، لا ينسى من كان عدوه ولا كيف يُقاومه.
فمن موآب وعمون إلى عمان المعاصرة لا تزال الأرض تكتب خطابها بطريقتها الصلبة في وجه من يظن أن الخرائط تسبق الذاكرة.




