في ظل التحولات الرقمية التي يشهدها العالم اليوم، أصبح من الضروري التفكير في أدوات غير تقليدية لتعزيز النزاهة والشفافية داخل المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء. في هذا السياق، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة واعدة لإعادة تشكيل الطريقة التي تُدار بها العمليات الإدارية والمالية، حيث بات بإمكانه أن يلعب دورًا محوريًا في تقييم النزاهة المؤسسية وكشف أنماط الفساد بشكل أكثر دقة وموضوعية من النظم التقليدية المعتمدة على التدخل البشري.
فكرة إنشاء نظام ذكاء اصطناعي لتحليل أنماط التوظيف والعقود والإنفاق العام قد تبدو للبعض أقرب إلى الخيال، لكنها في الحقيقة أصبحت قابلة للتنفيذ بفضل تطور الخوارزميات وتوفر البيانات الضخمة التي يمكن تغذيتها للنظام بهدف اكتشاف السلوكيات غير الاعتيادية أو المتكررة التي قد تشير إلى وجود فساد مالي أو إداري. فمثلًا، إذا تكررت أسماء بعينها في مناقصات عامة أو ظهرت صفقات توظيف غير مبررة في توقيتات حساسة، فإن النظام الذكي يستطيع رصد هذه الحالات وربطها بنقاط خلل محتملة دون تدخل بشري مباشر.
الأمر اللافت في استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال هو حياديته وعدم تأثره بالعوامل العاطفية أو الشخصية التي قد تتدخل في قرارات المفتشين أو المدققين البشريين، فبينما قد يُغفل الإنسان بعض التفاصيل بسبب التحيز أو الضغط، فإن الخوارزمية تحلل كل البيانات بطريقة منتظمة، وتعتمد فقط على مؤشرات رقمية ومعايير مسبقة التحديد، مما يرفع من جودة الرقابة ويعزز الثقة في النظام المؤسسي. كما يمكن لهذه الأنظمة أن تتكامل مع تقنيات التعلم الآلي لتطوير قدرتها على التنبؤ بأنماط الفساد مستقبلاً من خلال تحليل البيانات التاريخية وربطها بالسلوكيات الحديثة، وهذا ما يوفر أداة استباقية تكشف المخالفات قبل وقوعها.
ومن الأمثلة الواقعية على تطبيق هذا المفهوم ما قامت به بعض الدول مثل إستونيا وسنغافورة، حيث بدأت هذه الدول بدمج تقنيات رقمية متقدمة في نظم الرقابة المالية والإدارية، وتمكنت من خفض نسب الفساد بشكل ملموس، كما يظهر في تحسن تصنيفهما في مؤشرات الفساد العالمية. ففي إستونيا على سبيل المثال، تُستخدم تقنيات رقمية في مراجعة العقود الحكومية ومقارنتها بسجلات سابقة لاكتشاف أي خلل أو تكرار مشبوه. بينما طورت سنغافورة نظامًا رقميًا يعتمد على تحليل البيانات السلوكية لموظفي القطاع العام لرصد التغييرات المفاجئة في النمط المالي أو الإداري والتي قد تشير إلى وجود شبهات فساد.
لكن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على كشف الفساد المالي فحسب، بل يمكنه أن يساهم أيضًا في رصد أشكال أكثر خفاءً من الفساد الإداري، مثل المحاباة، والتحيز في التعيينات، واستغلال النفوذ، عبر تحليل شبكات العلاقات بين الموظفين والقرارات الإدارية التي قد تنحرف عن النمط المؤسسي المعتاد. فمثلًا، يمكن لنظام ذكي أن يكشف نمطًا متكررًا لتعيين أقارب لمسؤولين معينين أو منح ترقيات بشكل غير مبرر لأشخاص محددين، وذلك من خلال تحليل العلاقات الوظيفية والبيانات المتوفرة حول التعيينات والمسارات المهنية.
ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على المؤسسات الحكومية فحسب، بل يمكن تطبيقه أيضًا في الشركات الكبرى والقطاع الخاص، حيث يمكن للنظام أن يراجع فواتير الموردين، وسجلات العقود، ونفقات السفر، وطلبات الشراء، ليكشف عن أي تكرار غير منطقي أو تلاعب في الفواتير أو تضخم غير مبرر في الأسعار. هذا النوع من التحليل يمكن أن يوفر مبالغ كبيرة ويمنع تسرب الأموال ويعزز من مصداقية الشركة أمام المستثمرين والمستهلكين.
ومع ذلك، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي في هذا الحقل لا يخلو من تحديات، حيث تبرز قضايا مثل خصوصية البيانات وحماية المعلومات الحساسة من التسريب أو التلاعب، بالإضافة إلى الحاجة لضمان الشفافية في تصميم الخوارزميات نفسها حتى لا تتحول إلى أدوات مراقبة مفرطة أو وسيلة لتعزيز سلطة مركزية قد تسيء استخدامها. كما أن الاعتماد الكامل على الخوارزميات قد يُغفل أحيانًا البعد الإنساني، مثل الظروف الاستثنائية التي قد تبرر بعض القرارات غير المعتادة، وهو ما يبرز أهمية وجود توازن بين الذكاء الاصطناعي والإشراف البشري المستنير.
في السياق العربي، تبدو الفكرة مغرية لكن التطبيق يحتاج إلى بنية تحتية رقمية قوية وإرادة سياسية حقيقية تدعم الشفافية والمساءلة، كما يتطلب توفر كوادر فنية قادرة على تصميم وتطوير هذه الأنظمة بما يتلاءم مع السياق المحلي. وبالرغم من هذه التحديات، إلا أن تبني مثل هذا المشروع قد يفتح الباب نحو تحوّل نوعي في محاربة الفساد الإداري والمالي، ويمنح المؤسسات العامة أداة قوية لتعزيز ثقة المواطن بالدولة وبآليات الرقابة والمساءلة، كما يمكن أن يخلق فرصًا جديدة في مجال تحليل البيانات والتقنيات الناشئة، ويوفر وظائف متقدمة في مجالات البرمجة والأمن السيبراني والتحليل المؤسسي.
على المدى البعيد، يمكن لمثل هذه الأنظمة أن تُدمج مع استراتيجيات الحوكمة الرشيدة، وتصبح جزءًا من عمليات التدقيق المستمرة التي تُبنى على التحليل التنبئي لا الاكتشاف اللاحق للخطأ، وهو ما يمكن أن يحول طريقة عمل المؤسسات ويضع أسسًا جديدة لإدارة الشأن العام على نحو أكثر عدالة ومساءلة.
في النهاية، يمكن القول إن الخوارزميات لا تملك ضميرًا لكنها تملك القدرة على التحليل والربط والكشف بطرق تفوق إمكانيات البشر في كثير من الأحيان، وإذا تم توظيفها بشكل مسؤول وتدريجي فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتحول إلى حليف حقيقي في بناء مؤسسات أكثر نزاهة وفعالية وعدالة. ويبقى السؤال: هل نحن مستعدون فعلاً للانتقال من ثقافة المراقبة اليدوية إلى مرحلة الرقابة الذكية؟ وهل يمكن أن تثق الأنظمة في آلة لا تعرف العاطفة لكنها تلتزم تمامًا بالمعطيات والبيانات فقط؟




