إنّ الاحتفال بيوم العلم يعني الفخر بالأردن الدولة تاريخًا وهوية وصمودًا وتضحيات ومنجزات، فهذا كلّه مختزل برمزية العلم.
هذا، وقد يعتقد البعض بأن الظروف السياسية أوالاقتصادية أو الأمنية المرتبطة بأخبار يوم أمس لا تبعث على الاحتفال، وربما سيصف البعض من يحتفل بيوم العلم بالـ" سحيج "، مع تحفظي على هذا المصطلح الطارىء علينا؛ كون من يعتز بثوابته يسمى وطنيًّا أو ابن بلد، وليس ذلك المصطلح الذي إبتكروه عمدًا؛ ليجعل المهزوزين يخجلون من الفخر، والتغني بالمنجزات والثوابت الوطنية. أمن يعتز بالقيادة والجيش يسمى "سحيج" ؟! ألم نشهد تواضع واستحياء وعدم جرأة من البعض بالاحتفاء أو حتى الذكر لمعركتنا الوحيدة التي إنتصر بها العرب على الصهاينة ؟
في ألمانيا ،وفي العام 2006، وأثناء تنظيم بطولة كأس العالم، فوجئ الكثير من المراقبين والمحليين السياسيين من الاقبال الشديد من الألمان على رفع العلم الألماني كنوع من الفخر ببلادهم، وكانت تلك حالة جديدة بعد سنوات طويلة من الامتناع الذاتي عن إظهار المشاعر الوطنية نتيجة للشعور بالذنب بسبب ما حدث في الحرب العالمية الثانية، وما لم يفهمه الخبراء والمختصين آنذاك أن الشعب الألماني كان قد سئم من شعوره أو إشعاره بالذنب، وأنه في لحظة فارقة قرر أن يُظهر شعوره الكامن بالفخر ببلاده من خلال رفع العلم في كل مكان، واستمرت تلك الحالة وتزايد الشعور الألماني بالفخر وتجاوز العقدة النفسية التي سيطرت على الألمان لسنوات طويلة ولم يتم إنتقاد مشاعر الناس العفوية.
من حق الأردنيين وواجبهم الاحتفال بالعلم؛ رمزية الدولة وفخرها وشموخها، كيف لا وبعض الدول يقيم مواطنيها الدنيا ويقعدوها في مناسباتهم الوطنية؛ مع أن عدد سنين عمر تلك الدول لم يتجاوز درجة حرارة صيفها مئويًّا، ولكن مواطنو تلك الدول لا يحتفلوا على استحياء بل يتنافسوا بمقدار الاحتفال وأشكاله.
نعم، إن العلم هو رمز لوطن تجاوز منعطفات وصخور تكسرت على مثلها دول عظمى.
الأردن الدولة؛ أساس سرديته مستمد من الثورة العربية الكبرى، ثم استقلال المملكة ،ووضع دستورها المدني الرصين؛ الذي وثّق العقد بين الهاشميين وأجدادنا، وبعد ذلك تجاوز الأردن منعطف اغتيال الملك المؤسس على باب الأقصى ،وفراغ العرش والوصاية عليه، حتى أكمل الملك الجديد السن القانوني، ولم تغير الأردن الدولة حينذاك دستورها ليتكيف مع سن الملك وقت استشهاد جده المؤسس، ثم جاء تعريب قيادة الجيش الذي لا يزال اسمه الجيش العربي ،مما يعكس قومية هذا البلد رغم مزايدات الجوار حينذاك، ومن بعد ذلك معركة الكرامة الخالدة مرورًا بالتئام جرح أيلول وسواده، ثم المرور بمرحلة عصيبة اغتيل خلالها رؤساء حكومات استثنائيين، ثم محاولات لاغتيال الملك الباني، وبعدها انهيار الدينار، ومن ثم عودة الحياة النيابية، تلى ذلك عزلتنا و إنقطاع حليب أطفالنا إبان حرب الخليج، ثم وفاة ملك بحجم الحسين ،وتجاوزتها قوة ومنعة الأردن الدولة، ونذكر جميعنا وقفة سمو الأمير عبد الله بن الحسين حينذاك بشماغه المهدب أمام صورة الراحل الكبير بعد صعود بضع درجات تحت قبة البرلمان، فأقسم دستوريًّا، والقاصي والداني والعدوّ قبل الصديق يشهد بأنه برّ بقسمه، وقادنا، وسوف يبقى يقودنا إلى بر الأمان، وعلى يمينه قرة عينه وقرة عين الأردنيين سمو ولي العهد الأمين، وكل ذلك على ضوء الإمكانيات المتاحة وفي خضم المؤامرات الفاشلة، وتجاوز بنا مرحلة الربيع العربي بكل رقي وحضارة واحترام بعد تفجيرات الفنادق وقبل إستشهاد معاذ وسائد وراشد وزملاؤهم من الشهداء الذين لحقوا بفراس العجلوني، ثم عاد بيوبيله الفضي وبعد القضاء على الفتنة وأقسم : " وعهدي لكم أن يبقى الأردن كريمًا عزيزًا آمناً مطمئناً "، وقد كنا بالأمس - لدى كشف مؤامرة أعداء الداخل وإبطال خلاياهم- أمام مثال حي ومباشر لبرّ القائد بقسمه، وها هو الأردن آمنا مطمئنًّا، وعلى ما يبدو فإن جلالة القائد قد راهن في تنفيذ قسمه على شعب واعٍ، وقوات مسلحة باسلة، وفرسان حق أكفّاء ويقظين، وللأسف تم إخترال مؤسستيهم وتفانيهم بكل صلافة وتجرقبل جاحدين بوصف "سجن".
نعم يحق للأردني أن يفتخر بعلم دولته التي آوت اللاجيء من ويلات الحروب وأغاثت الملهوف، دولته التي تدافع بشراسة عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على ترابه، الدولة التي يقطعها مواطنها بسيارته من شمالها لجنوبها ليلاً دون أن يتعرض له أحد، مؤمّناً على بيته وعِرضه وعائلته التي تركها خلفه.
وبنهاية هذه الخاطرة فإني أجتزىء الأبيات المعبرة التالية من قصيدة الشاعر سليمان عويس - رحمه الله - : " لبسني شعار الجيش ":
الله ياللي اسمك عرار، شقد كنت رغم المرار تصيح، يا أهل الوطن حبو الوطن ترى حب الوطن سُنّه.
إحنا اللي جدلنا للحجر من طيّة الشريان مقلاعه، وحطينا بإرادتنا ترى بإرادتنا لجيل الإنتفاضة والأمل طاعة،
لأن مجرى النهر ما قسم مهر زيتونا نصين ولا قسم رغم كل المحن للمكتوي بالنار أوجاعه،
لأن آسي الوليد اللي إله قلبين ما يحتاج يعطي كل قلب سماعه،
لأن آن الأوان نقول كلمتنا وخلي اللي ما سمع يسمع، وخلي كل حنك بدو الحرم يرجع،
أبد ما كنا في الشدة ورق شدة، ولا إحنا الفريق الإحتياط في ساعة إسترجاعه،
مساء الخير، على القائد وعلى الضابط وعلى الجندي اللي بلا رتبة، إذا ورد الوغا بيوم المنايا شهد وكبر، ولا في يوم الفدى سمع النداء وتقاعس وأدبر، ولا خلى الوطن ديوان للغازي، ولا خلى المعابر للعدو معبر،
ونظل إحنا وجع بغداد عشق الشام نبض القاهرة إحنا، ولا لما إنقطع عنا حليب أطفالنا بسوق الخنى نُحنا.