*
الاثنين: 28 نيسان 2025
  • 15 نيسان 2025
  • 12:27
قيمة كل امرئ ما يحسنه
الكاتب: أ.زيد الكعابنة


باحث في الدراسات الاستراتيجية


قالت العلماء : أكثر ما يُفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي
هذا يُفسد الأديان، وهذا يُفسد البلدان، وهذا يُفسد الأبدان، وهذا يُفسد اللسان
وقال الشاعر:
‏الـكلُّ في هـذي الديارِ مـدرِّسٌ
والـكـلُّ فـيـهــا شــاعرٌ وأديـبُ

والـكلُّ إن شئتَ البناءَ مهندسٌ
والكلُّ إن شـئـتَ الـدواءَ طبيـبُ

والكلُّ في علـمِ الحـديثِ مُحدَّثٌ
والكلُّ في علمِ الكلامِ خطيبُ

والكلُّ قد درس الحقوقَ وعلمَها
والكلُّ في  علمِ  القـضاءِ رهيب

والكل في علم السياسة باحثُ
والكل في  فن  الكياسة  لبيب

والفقهُ عندَ الناسِ أمرٌ هيّنٌ
فالكلّ يفتي دائمًا ويصيبُ..

ما عادَ في هذي الديارِ تخصّصٌ
هذا لعمري مُخْجِلٌ و مُعِيبُ..

لو كلّنا عَلِمَ الحدودَ لعقلهِ
ما عاثَ فينا جاهلٌ وكذوبُ

عن ابن عباس قال:
خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية وقال:
(يا أيها الناس، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله جعلني له والياً وقاسماً)..
وسأل رجلٌ الإمام مالكاً عن شيءٍ متعلق بالبسملة؛ فأحال على الإمام نافعٍ؛ وقال:
(سلوا عن كلّ علمٍ أهلَه، ونافعٌ إمامُ الناس في القراءة)
فقيمة كل امرئ ما يحسن ومن تحدث في غير فنه أتى بالعجائب
فالحديث في غير مجال التخصص أو الخبرة قد يؤدي إلى نتائج غريبة أو غير متوقعة، وهذه العبارة تُعبّر عن فكرة أن الخوض في مواضيع خارج نطاق معرفة الشخص قد يُنتج آراءً أو أفعالًا خاطئة أو غير مدروسة، مما يُظهر الجهل أو يُسبب الإحراج. فالعبارة تحذّر من التسرع في إبداء الرأي في مجالات لا يُتقنها الإنسان، وتؤكد أهمية التواضع الفكري والالتزام بالحدود الواقعية للمعرفة. فمثلًا: لو تحدث مهندسٌ في الطب دون فهم، قد يُقدّم نصائحَ خاطئة.
 أو لو ناقش شخصٌ غير متخصص في الفيزياء نظريات معقدة، قد يقع في تناقضات ، فالقليل من المعرفة خطر
فيجب أن تتكلم بما تعرف وأترك ما لا تعرف فالواجب تشجيع الناس على التخصص والبحث قبل الحديث، واحترام حدود المعرفة، مع الحث على التعلم دون ادعاء الكمال. ليست العبارة ضد الاستكشاف أو تعلّم مجالات جديدة، بل ضد التحدث بثقة دون أساس!
واليوم في ظل وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المستمرة، يشعر الكثيرون بأن عليهم التعليق على كل حدث، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا. هذا الضغط قد يُفقد الرأي قيمته الحقيقية، خاصة إذا لم يكن مبنيًا على فهم عميق.فليس كل حدث يستحق نفس القدر من الاهتمام. والتركيز على القضايا التي تؤثر عليك مباشرةً، أو التي تمتلك فيها معرفة كافية، يجعل مشاركتك أكثر فاعلية وصدقًا. كما قال الفيلسوف الرواقي: "ليس المهم طول الحياة، بل عمقها".
فيمكنك أن تتعرف على حدث ما دون أن تشعر بالحاجة إلى تقييمه. فالمعرفة لا تستلزم الحكم دائمًا، بل تتيح لك التريث واتخاذ قرار واعٍ بشأن مشاركة رأيك من عدمه والوعي بحدود معرفتك، واحترام ذاتك في عدم الإجبار على التعبير عن كل شيء، ليس علامة على اللامبالاة، بل دليل على النضج الفكري والقدرة على إدارة الموارد الذهنية بذكاء هذه الفكرة تحمل رؤية عميقة لمفهوم الثقافة الحقيقية والفكر الناضج فالثقافة ليست "كمًّا" من الآراء، بل "كيفًا" في التفكير و المثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد المواقف التي يُعلن عنها، بل بقدرته على التمييز بين ما يعرفه حقًا وما يجهله
والثقافة تعني الاعتراف بالجهل قبل ادعاء المعرفة
   فالفيلسوف سقراط كان يُعلّم تلاميذه أن الحكمة تبدأ بـ "أعرف أني لا أعرف". الشخص الذي يُصر على إصدار أحكام في كل المجالات — من الفيزياء الكمومية إلى سياسة الجوار — يُظهر تناقضًا مع جوهر الثقافة التي تقوم على التواضع الفكري، فالتعبير الدائم عن الرأي قد يكون هروبًا من التفكير ، كما في عصر "الرأي السريع"، يُستخدم التحدث عن كل شيء كبديل عن التفكير النقدي. فالمثقف لا يخاف من الصمت أو القول: "هذا ليس مجال تخصصي". كما كتب (إميل سيوران): "الكلام وسيلة لإقناع الآخرين بأنك موجود... الصمت يُثبت أنك تعرف كيف تكون".
فالثقافة الحقيقية انتقائية والمثقف ليس موسوعة متنقلة، بل هو فلتر ذكي للمعلومات. يعرف متى يتحدث، ومتى يستمع، ومتى يُحيل السؤال إلى الخبراء. والعلاقة بين المثقف والاختصاص المعرفي تُعدّ موضوعًا مهمًا في سياق التطور الفكري والمجتمعي، خاصة في عصر يتسم بالتخصص الدقيق وتشعّب المعرفة فالعلاقة بين المثقف والاختصاص المعرفي ليست تنافُريّة، بل تكامُلية. المثقف الجديد هو من يبني جسورًا بين التخصص الدقيق والرؤية الشمولية، مُستفيدًا من عمقه في مجاله لتقديم حلول مبتكرة لقضايا معقدة، مع الحفاظ على مسؤوليته الاجتماعية في توجيه الوعي في فنه ومجاله وتخصصه فقيمة كل امرئ ما يحسن.

زيد الكعابنة

مواضيع قد تعجبك