تمهيد: من يملك لا يملك... والمواطن في مهب الضريبة
في المجتمعات الحديثة، تُعد الملكية العقارية ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي، والضمان الذاتي للأفراد، والملاذ الآمن للفقراء قبل الأغنياء. لكن في ظل التوجهات التشريعية الجديدة، وتحديدًا مع مشروع قانون ضريبة الأبنية والأراضي لسنة 2025، يتعرض هذا الحق الدستوري لهزّة خطيرة، تجعل من الملكية حقًا مشروطًا بالقدرة على الدفع المستمر، لا امتيازًا محميًا بموجب الدستور.
فالمواطن الأردني الذي يملك بيتًا صغيرًا، أو قطعة أرض موروثة، سيجد نفسه في ظل هذا القانون الجديد أشبه بالمستأجر لدى الدولة، مطالبًا كل عام بضريبة تُحتسب بناءً على تقدير إداري متقلّب، بغضّ النظر عن الدخل أو طبيعة الاستغلال.
أولًا: ضريبة مستمرة تُحوّل العقار إلى عبء وليس إلى أصل
تنص المادة (12) من مشروع القانون على نسب ضريبية سنوية على العقارات، كما يلي:
1% من القيمة التقديرية للأبنية السكنية.
3% من القيمة التقديرية للأبنية غير السكنية.
0.2% من القيمة التقديرية للأراضي التي تزيد مساحتها عن 1000م².
0.4% من القيمة التقديرية للأراضي التي تقل عن 1000م².
قد تبدو هذه النسب منخفضة ظاهريًا، لكنها تُطبّق سنويًا، وتتراكم، وتترافق مع غرامات تأخير وفوائد تنفيذ، ما يعني أن المواطن الذي يمتلك أكثر من عقار، أو يرث قطعة أرض في منطقة مشمولة بتنظيم، قد يجد نفسه أمام فواتير ضريبية تفوق دخله السنوي بكثير.
سؤال بسيط:
ماذا لو كان العقار غير مؤجّر؟ أو غير مستغل؟ أو عاطل عن العمل صاحبه؟
القانون لا يجيب، بل يُطالب بالدفع، وإلا فالعقوبة جاهزة: الحجز والتنفيذ والبيع بالمزاد العلني.
ثانيًا: نزع الملكية المقنّع – حين تكون الجباية وسيلة للاستحواذ
نزع الملكية يجب أن يكون بموجب قانون خاص، ولقصد نفع عام، وتعويض عادل، وفقًا للمادة (11) من الدستور الأردني.
لكن هذا القانون، وإن لم ينص صراحة على نزع الملكية، فإنه يفتح له بابًا خلفيًا أكثر خطورة، وأكثر هدوءًا:
المواطن العاجز عن دفع الضريبة، يدخل في دائرة المديونية.
الدولة تفرض الحجز، وتباشر إجراءات التنفيذ، دون مراعاة الظروف الشخصية أو الاقتصادية.
العقار يُباع في المزاد، بأسعار منخفضة، لصالح جهات تجارية أو مستثمرين.
النتيجة: المواطن يفقد ملكيته، لا لصالح مصلحة عامة، بل لصالح الجباية.
وبهذا، يتحوّل القانون من أداة تنظيم إلى وسيلة لإعادة توزيع الثروة من الطبقة الوسطى إلى الكبار والمستثمرين.
ثالثًا: اختلال العدالة في التقدير: من يُقدّر؟ وبأي معيار؟
القانون يتحدث عن "القيمة التقديرية السنوية" للعقار كأساس لاحتساب الضريبة، دون أن يضع معايير واضحة أو ضمانات لحيادية هذا التقدير.
من يُقدّر؟ كيف؟ هل يُراعى دخل المالك؟ طبيعة الاستخدام؟ واقع السوق؟ لا شيء من هذا مذكور.
وفي ظل غياب آلية اعتراض شفافة وفعّالة، يُصبح التقدير أداة ضغط، تُستخدم حسب الحاجة المالية، لا حسب العدالة الضريبية.
رابعًا: من حماية الملكية إلى عقابها – تحوّل فلسفة الدولة
في الدساتير الحديثة، الدولة هي الحامية للملكية، لا خصمًا لها. لكن هذا القانون يُغيّر جوهر العلاقة بين المواطن والدولة:
المواطن الذي يملك بيتًا، لا يُكافأ، بل يُعاقب.
مَن اشترى أرضًا ليؤمّن مستقبل أولاده، يُطارد كل عام بدفعات قد تفوق ما يتحمله.
أصحاب الدخل المحدود، خصوصًا كبار السن، والعائلات التي ورثت أراضي غير مستغلة، سيجدون أنفسهم مُجبرين على بيعها أو خسارتها.
وهنا تتحوّل الملكية من "حق" إلى "عبء"، ومن عنصر استقرار إلى فخ ضريبي يُؤدي إلى خسارة ما بُنيَ في سنين.
خامسًا: مقارنة دولية – من يفرض ضريبة لا بد أن يراعي العدالة
في فرنسا، الضريبة العقارية تراعي دخل الفرد، وهناك إعفاءات للأسر محدودة الدخل.
في ألمانيا، يُمكن للمالك تأجيل الضريبة إذا لم يحقق العقار دخلًا فعليًا.
في كندا، الضرائب المحلية تُقرّ من البلديات عبر انتخابات محلية، وليس بقرار مركزي فوقي.
أما في الأردن، فالضريبة مفروضة دون تدرّج، ولا تراعي طبيعة الاستخدام، ولا قدرة الدفع، ولا تعطي المواطن صوتًا حقيقيًا في تقدير عبئه الضريبي.
خاتمة وتوصيات: لا جباية بلا عدالة، ولا ضريبة بلا حماية
إن مشروع قانون ضريبة الأبنية والأراضي لسنة 2025 ليس مجرد تعديل تقني، بل تحوّل جذري في فلسفة الدولة تجاه الملكية الخاصة.
إنه قانون يحمل في طيّاته مقومات أزمة اجتماعية واقتصادية، ويُنذر بتفريغ الريف من سكّانه، وخسارة الطبقة الوسطى لعقاراتها، وتحويل الدولة إلى خصم دائم في معركة التملك.
وعليه، نوصي بـ:
1. إلغاء المادة (12) أو إعادة صياغتها بما يراعي دخل المالك وطبيعة الاستغلال.
2. إعفاء العقارات غير المستغلة فعليًا من الضريبة أو تقسيطها بعد تحقق دخل.
3. إخضاع القيمة التقديرية لرقابة قضائية حقيقية، مع حق الاعتراض الفوري.
4. فرض سقوف ضريبية عادلة تراعي صغار الملاك وأصحاب الأراضي غير المنتجة.
5. فتح حوار وطني قبل إقرار القانون، وإشراك البلديات والمواطنين في صناعة القرار الضريبي.
الملكية ليست امتيازًا، بل ضمانة للكرامة والهوية.
وأي قانون يُفرّغ هذه المعاني، لا يُعدّ إصلاحًا... بل أداة لانتزاع حق الإنسان في أرضه، وتحويله إلى مجرّد دافع ضريبة عاجز عن الاحتفاظ بما يملك.