*
الجمعة: 18 نيسان 2025
  • 12 نيسان 2025
  • 01:16
الصحراوي…طريق الوطن
الكاتب: عماد صبري الطراونة

في قلب الأردن، حيث تلتقي الشمس بالرمال، وتُنسج حكايات العشق والتعب بخيوط من أسفلت وعرق، يمتدُّ الطريق الصحراوي كشريانٍ حيويٍّ ينبض بالحياة. إنه ليس مجرد طريق عادي يربط بين المدن، بل هو مرآة تعكس نبض الوطن، وتاريخ أبنائه الذين يحملون على أكتافهم همومًا تذوب تحت عجلات السيارات، وأحلامًا تُشرق مع كل شروق.  

في ساعات الفجر الباكر، وقبل أن تلمس أشعة الشمس حوافَّ الجبال، يبدأ الركب. سياراتٌ تحمل عمالًا يقطعون مئات الكيلومترات يوميًا، بين منزلٍ ينتظر حضن العائلة، وعملٍ يبحث عن لقمة العيش. عيونٌ تلهث خلف الأفق، وأيدي تشبث بمقود السيارة كأنها تشبث بالحياة ذاتها. هنا، على هذا الطريق، تذوب الحدود بين التعب والأمل؛ فكل مترٍ تقطعه سيارة هو خطوةٌ نحو غدٍ أفضل، وكل غبارٍ يعلو الزجاج الأمامي هو شاهدٌ على إصرارٍ لا ينكسر.  

يمرُّ الصحراوي بمحافظاتٍ تتنفس تاريخًا وكبرياءً، من معان الحاضنة الأمينة، إلى الطفيلة والكرك والعقبة، حيث تروي الأرض حكايات الكرم والشجاعة. هنا، تفتح البيوت أبوابها للغرباء، وتُقدَّم القهوة ساخنةً حتى لو كان آخر ما تبقى في الدار. أهلُ الصحراء يعرفون معنى "الجار قبل الدار"، ويعلمون أن الغيمة التي تحمل المطر لا تميز بين خيمةٍ وأخرى. في محطات الوقود البسيطة، يتبادل السائقون ابتساماتٍ وكلماتٍ تدفئ القلب، وكأنما الطريق علَّمهم أن الإنسانية هي الوقود الذي لا ينضب.  

ولا ينام الوطن إلا وعيون رجال الشرطة ساهرة، تلمع مصابيح دورياتهم في ظلام الليل كنجومٍ ترشد الضالين. هم رجالٌ يضحّون بلحظات الراحة ليطمئنوا على كل مسافر، يرفعون أيديهم مُودِّعين: "طريق السلامة يبوي". كلماتٌ بسيطةٌ تختزل في طياتها حبًّا أبويًّا وهمًّا وطنيًّا، فحماية الوطن لا تكون بالسلاح وحده، بل بالقلوب التي تنبض بالوفاء.  

وفي كل مرة يحمل الطريق على ظهره أبناء الوطن بكل أطيافهم: الجندي العائد من ثكناته البعيدة يحمل في عينيه حنينًا لأولاده، والطبيب الذي يسابق الزمن بسيارة إسعاف كأنما حياته مكرسة لإنقاذ الآخرين، والموظف الذي يقطع المسافات ليُثبت أن الكرامة لا تُقاس ببعد المسافة، والعاطل عن العمل الذي يجعل من الطريق متنفسًا لأحلامه المعلقة، والمهجّر الذي يحمل جراح الغربة ويجد في صحراء الأردن وطنًا بديلًا عن وطن. ولا ننسى ذلك الطفل البدوي العتيد عند ناصية القويرة، الذي يبيع البطيخ بابتسامةٍ لا تقلّ براءة عن فاكهته، وكأنه يذكّرنا أن الحياة، رغم قسوتها، يمكن أن تُقطّع شرائحَ حلوةً تُروي العطش.  

قبل أن تصل إلى الهاشمية وحسينية بن جازي، حيث الرياح العاتية والغبار المعتم تروي قصصًا عن شجاعة أهلها، يتوقف المسافرون عند "استراحة". هنا، تُرتشف قهوةٌ العميد قبل أن يرتفع سعرها تَعبُر الحلق كالسحر، أو كاسة شايٍ يُحلى ب"سكر زيادة"، كأنما الطريق يمنحهم دقائقَ من دفءٍ مؤقت قبل معاودة الرحلة. في هذه الاستراحات، تُنسج الصداقات بين غرباء، وتُروى النكات التي تُذيب تعب الساعات.  

الصحراوي هو أكثر من طريق؛ هو حكاية وطنٍ كتبها الأردنيون بدماء قلوبهم. هو حيث تُستقبل مدينةٌ وتُودع أخرى، حيث تُحمل الأحلام والهموم في حقائب متشابهة. هو رمزٌ للصمود، فمهما ارتفع غباره، أو اشتدت رياحه، يبقى الأردنيون يسيرون عليه بقلوبٍ لا تعرف الاستسلام. إنه الهوية التي سطرها البسطاء بأحلامهم، وحرسها الشجعان بتضحياتهم، وزيّنها الأطفال ببراءتهم. فسلامٌ عليك يا طريق الحياة، فأنتِ الوطن تسافر معنا في كل مكان... طوبى لك أيها الصامد الأغر..

مواضيع قد تعجبك