في عالم يتسارع فيه الإيقاع وتتشابك فيه الثقافات، تبرز الحاجة إلى تمكين الأفراد من الوصول إلى الثقافة كحق أساسي من حقوق الإنسان، لا كامتياز لفئة دون أخرى. وفي الأردن، بات مفهوم دمقرطة الثقافة يأخذ مكانه في صميم النقاشات الوطنية حول التنمية والهوية والعدالة الاجتماعية، باعتباره بوابة نحو مجتمع أكثر وعياً وتنوعاً وتماسكاً.
دمقرطة الثقافة في السياق الأردني تعني إتاحة الفرص المتساوية أمام جميع المواطنين للمشاركة في الحياة الثقافية، سواء كانوا من سكان المدن الكبرى أو القرى النائية، من الطبقات الميسورة أو الفئات الأقل حظاً، من أصحاب التعليم العالي أو ممن لم تتح لهم فرصة الدراسة. فالثقافة لا تقتصر على النخبة، بل هي نَفَس الحياة اليومية، وتعبير عن الذات، ووسيلة للتفاهم بين الأفراد والجماعات.
شهد الأردن في العقود الأخيرة جهوداً متنامية لنشر الثقافة خارج حدود العاصمة، من خلال إنشاء مراكز ثقافية في المحافظات، وتنظيم مهرجانات فنية وأدبية تستهدف المجتمعات المحلية، وتوسيع نطاق المكتبات العامة. كما أسهمت وسائل الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز هذا التوجه، حيث أصبح بإمكان الشباب التعبير عن أفكارهم وهوياتهم ومواهبهم من دون وسيط أو رقابة تقليدية. لقد تحولت المنصات الرقمية إلى ساحات مفتوحة لكل من يملك صوتاً أو فكرة أو إبداعاً، وساهمت في تقليص الفجوة بين المركز والأطراف.
ومع ذلك، فإن الطريق نحو دمقرطة الثقافة ليس خالياً من التحديات. فما زالت الفجوة قائمة بين العاصمة والأطراف من حيث الإمكانات الثقافية، وما زال الدعم المالي للمبدعين محدوداً، ناهيك عن قضايا تتعلق بحرية التعبير والمناخ العام الذي قد لا يشجع أحياناً على التجريب والاختلاف. كما أن بعض المبادرات الثقافية ما تزال تفتقر إلى الاستمرارية، وتعتمد على جهود فردية أو دعم خارجي غير مستدام.
رغم ذلك، يبقى الأمل قائماً، فالإرادة موجودة، والطموح نحو مجتمع أكثر انفتاحاً وعدالة ما زال يحفّز العديد من المثقفين وصناع القرار على المضي قدماً. إن دمقرطة الثقافة في الأردن ليست فقط مسؤولية المؤسسات الرسمية، بل هي أيضاً مسؤولية المجتمع بكل مكوناته، من معلمين وفنانين وكتّاب وشباب يسعون إلى التغيير من داخل الأحياء والمدارس والمقاهي والمنصات الرقمية.
إن الثقافة، حين تكون مشاعاً للجميع، تتحول إلى قوة لبناء الإنسان، وتعزيز الانتماء، وتحفيز الإبداع، وتشكيل الوعي النقدي. وبهذا المعنى، فإن دمقرطة الثقافة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وطنية، وجزء لا يتجزأ من مشروع التنمية المستدامة، والنهضة الإنسانية فإن دمقرطة الثقافة في الأردن ليست مجرد هدف بعيد المنال، بل هي خطوة عملية نحو بناء مجتمع قادر على النهوض بنفسه ومواجهة التحديات المعاصرة. من خلال تعزيز الوصول إلى الثقافة وتوسيع المشاركة فيها، يمكن تحقيق مزيد من الوعي والتفاهم بين أفراد المجتمع، مما يساهم في تعزيز قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ومن هنا، فإن دور المؤسسات الحكومية، والمنظمات المدنية، والمثقفين، والطلاب، وحتى القطاع الخاص، يكمن في التعاون معاً لضمان توفير بيئة ثقافية شاملة وداعمة لجميع أفراد المجتمع. إن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الإنسان، وفي بناء مجتمع متماسك ومتقدم. على الجميع العمل معاً لتحقيق هذا الهدف، مستندين إلى الإيمان بأن الثقافة ليست مجرد ترف، بل ضرورة حيوية لمستقبل أفضل في الأردن .