لطالما دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على اختيار وصناعة عدوٍّ تُحاربه وتُهدد به شعبها والعالم. فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم تهدأ ماكينة العداء الأمريكية، إذ اختارت الاتحاد السوفيتي خصماً وجودياً لها ولدول العالم، واستمر الحال على هذا النحو حتى لحظة انهياره في بداية التسعينيات. بعدها، ولأول مرة، وجدت نفسها دون عدو مباشر، في فراغ استراتيجي لم يتأخر كثيراً، حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فكان "العدو الجديد" هو تنظيم القاعدة في أفغانستان، وما تبعه من جماعات وتنظيمات ظهرت تباعاً، مروراً بغزو العراق، وما جلبه من فوضى وصراعات وأزمات ممتدة. فضلاً عن علاقة العداء المعقدة والمتغيرة مع إيران وملفها النووي.
أما اليوم، فتعود الولايات المتحدة لصناعة عدو جديد، وهذه المرة هو الصين. لكن الحرب هنا مختلفة، وأدواتها أيضاً مختلفة. إذ لم تعد الادوات التقليدية من الطائرات والبنادق والبوارج وحدها على المسرح، بل دخلت التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا والابتكار إلى قلب المعركة. إنها حرب على المعادن النادرة ايضاً الموجودة في دولٍ كأوكرانيا وتايوان وجنوب أفريقيا وجزيرة غرينلاند، وغيرها من الدول التي تحولت إلى ساحات تنافس محتدم.
ونحن الآن نعيش في قلب المعركة، تلك التي بدأها الرئيس الأمريكي ترمب بفرضه رسوماً جمركية على معظم دول العالم، قبل أن يتراجع عنها ويوقفها لمدة 90 يوماً، باستثناء الصين، التي وصلت قيمة التعرفة الجمركية المفروضة عليها إلى 125%. وقد ردّت الصين – التي أعلنت أنها "ستقاتل حتى النهاية" – بفرض تعرفة جمركية بلغت 84%. وهذا ما يؤكد ما ذكرته سابقاً أن المستهدف الأساسي من هذا القرار الأمريكي كانت الصين دون سواها.
اذاً العالم بأسره يقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما الاصطفاف خلف الولايات المتحدة، وبالتالي تعزيز نفوذها لعقود قادمة، أو الميل نحو الصين، مما يعني تحوّل موازين القوى واعتماد الدول، وتحديداً الأوروبية، على نفسها، وربما إيذاناً بنهاية النفوذ الأمريكي دون رجعة.
وفي خضم هذا المشهد العالمي المتوتر والمتغيّر، بات من الواضح أننا نعيش ولادة نظام دولي جديد، تتشكل ملامحه على وقع الصراع بين القوى الكبرى. اذ لم يعُد العالم كما عهدناه، بل كما قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قبل أيام: "العالم الذي كنا نعرفه... قد انتهى".