*
الجمعة: 18 نيسان 2025
  • 09 نيسان 2025
  • 09:30
الجامعات الرسمية بين الوصاية والاستقلال
الكاتب: أ. د. هاني الضمور


في الوقت الذي تسعى فيه النظم الجامعية المتقدمة إلى تعزيز استقلالية مؤسساتها الأكاديمية، تواصل بعض أنظمتنا المحلية تكريس المركزية، والهيمنة الإدارية، والنظرة البيروقراطية للمؤسسة الجامعية. آخر ما صدر عن مجلس التعليم العالي من قرار يتعلق بتقييم رؤساء الجامعات الحكومية، يطرح علامات استفهام كثيرة حول طبيعة العلاقة بين الدولة وهذه المؤسسات، وحدود استقلالها، ومكانة القيم الأكاديمية في إدارتها.

التقييم بحد ذاته ليس مرفوضاً، بل هو ضرورة في أي مؤسسة حيوية وذات رسالة. غير أن الإشكالية لا تكمن في “الفعل” بل في “الأساس”. فحين يُقيَّم رئيس جامعة لم تُتح له دعما في  تشكيل فريقه، أو بناء رؤيته، أو اتخاذ قراراته دون المرور عبر عشرات الحلقات التنظيمية، يصبح التقييم ممارسة شكلية لا أكثر. كيف يمكن أن نحاسب من لم نمنحه أدوات الفعل؟ وكيف نطالب بالإبداع في بيئة تخنق القرار من لحظة ميلاده حتى لحظة تنفيذه؟

الجامعات الرسمية، رغم ما تقدمه من جهود، تفتقر في أغلبها إلى الحد الأدنى من الاستقلال المالي. تعتمد بشكل يكاد يكون كلياً على الرسوم الدراسية، والتي تتجاوز في بعض الحالات تسعين بالمئة من مجمل إيراداتها، بينما يضيق الدعم الحكومي تدريجياً. هذا الواقع يفرض ضغوطاً هائلة على الجامعة، تدفعها إلى السعي خلف الإيرادات على حساب رسالتها العلمية. فتتحول من مؤسسة تنتج المعرفة إلى كيان يسعى لتغطية عجزه المالي بأي وسيلة، وغالباً على حساب الطالب وجودة التعليم.

ومع غياب الاستقلال المالي، لا يُنتظر الكثير من الاستقلال الإداري. مجالس التعليم العالي، والأنظمة والتعليمات المرتبطة بها، لا تزال تتحكم بتفاصيل عمل الجامعات، من البرامج والتخصصات، إلى الرسوم والتعيينات. حتى السياسات الأكاديمية، التي يُفترض أن تكون شأناً داخلياً صرفاً، تمر عبر قنوات متعددة لا علاقة لها بالسياق الأكاديمي. المفارقة الصارخة أن هذه المنهجية تُمارس في وقت يُطلب فيه من الجامعات تحسين تصنيفاتها الدولية، وتعزيز قدرتها التنافسية، وتوسيع شراكاتها، ومواكبة التحولات الرقمية والمعرفية.

في ظل هذا الواقع، تبدو الفجوة بين الخطاب والممارسة أكثر وضوحاً. نردد أهمية الاستقلال، ونطالب الجامعات بالتحول والابتكار، لكننا نحاصرها بأنظمة وتدخلات تتناقض مع أبسط مقومات الحوكمة المؤسسية. نحن لا نفتقر إلى الوعي بضرورة الإصلاح، لكننا لا نزال نُدير مؤسساتنا بمنطق “الرقابة” لا “التمكين”، و”التحكم” لا “المساءلة”.

الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الجامعة لا يمكن أن تكون أداة وطنية فاعلة ما لم تُعامل كمؤسسة مستقلة تُدير شؤونها بنفسها. الحوكمة ليست مصادرة للقرار بل ضمان لفاعليته. والمساءلة ليست إحلالاً لوصاية مركزية، بل انعكاس لعقد ثقة متبادل بين المجتمع والمؤسسة.

إذا استمرت العلاقة بين الدولة والجامعات على هذا النحو، فإن مخرجات التعليم العالي ستبقى محدودة، والمكانة الأكاديمية لهذه المؤسسات ستظل تتراجع. أما إذا قررنا فعلاً أن نعيد صياغة هذه العلاقة على أسس عقلانية تحترم الاستقلال وتُفعل المساءلة، فسنكون قد خطونا أول خطوة في اتجاه إصلاح حقيقي، لا تجميلي، لمنظومة التعليم العالي.

الجامعة ليست مجرد مبنى، وليست جهة تنفيذية، بل عقل وطني يجب أن يُحرر ليبدع، لا أن يُقيّد ليُحاسب.
ا د هاني الضمور

مواضيع قد تعجبك