لم يكن اقتحام المسجد الأقصى مؤخرًا مجرد انتهاك عابر، ولم تكن الاعتقالات والاعتداءات داخل الحرم القدسي فعلًا أمنيًا محدودًا، بل هو فصل متجدد من ملحمة تاريخية معقّدة، تُكتَب بدماء الشهداء ودموع المصلين، وها نحن نعيش في زمن تتقاطع فيه النبوءات الدينية مع الوقائع السياسية، ويتحوّل الصراع على القدس إلى بوابة لحرب إقليمية كبرى، عنوانها: الوجود والمصير.
الاقتحام.. القربان.. وسيناريو الهيكل
اقتحمت قوات الاحتلال المسجد الأقصى المبارك بعنفٍ فاق كل الأعراف، مستخدمة القوة المفرطة ضد المصلين والمعتكفين في أقدس ليالي شهر رمضان. ولم يكن الهدف مجرد تفريق التجمعات، بل تهيئة الأجواء لطقوس "ذبح القربان" التوراتي، والذي تسعى جماعات "الهيكل" لإحيائه داخل الحرم القدسي باعتباره الخطوة الأولى نحو إقامة "الهيكل الثالث"، على أنقاض المسجد الأقصى.
ذبح القربان في المعتقد اليهودي المتطرّف ليس مجرد عبادة، بل فعلٌ تأسيسي، يحمل بُعدًا سياسيًا خطيرًا، إذ يعني – في وعيهم الديني – إعادة السيادة اليهودية على الأرض المقدسة، وانتقالهم من الشتات إلى المجد، ومن الانتظار إلى التمكين.
وبينما يشاهد العالم هذه الانتهاكات، يغضّ كثير من القادة الطرف عن أن هذا السلوك يمثّل محاولة واضحة لفرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، تمهيدًا لاقتلاعه من الجغرافيا الإسلامية وتحويله إلى نقطة انطلاق لحرب "دينية" تخدم أهدافًا لاهوتية غارقة في الدماء.
الداخل الإسرائيلي.. لعنة العقد الثامن
في موازاة ما يحدث في الأقصى، يعيش الداخل الإسرائيلي واحدة من أسوأ مراحله السياسية والاجتماعية. فالمجتمع الصهيوني بات منقسمًا على ذاته، بين تيارات علمانية تخشى من سيطرة المتدينين، ومتطرفين يؤمنون بأن الدولة اليهودية يجب أن تُحكم وفقًا للتوراة. وتزداد حدة هذه الانقسامات مع اقتراب إسرائيل من دخول العقد الثامن من تأسيسها – العقد الذي يعتبره اليهود، حسب كتبهم، مَعبَرًا خطيرًا قد يؤذن بانهيار الدولة كما انهارت الكيانات السابقة التي لم تعمّر أكثر من 80 عامًا.
وقد عبّر رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك عن هذه المخاوف صراحة، حين كتب في "يديعوت أحرونوت" بأن إسرائيل قد لا تنجو من "لعنة العقد الثامن"، وأن الانقسام الداخلي قد يؤدي إلى زوال المشروع الصهيوني برمته.
غزة.. طوفان الدم والكرامة
وفي خضم هذا التوتر، جاءت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، لتقلب موازين المعادلة.
في صباحٍ غائم من أكتوبر، اجتاحت كتائب القسام، ومعها فصائل المقاومة، مستوطنات الغلاف، في هجومٍ مباغتٍ هزّ منظومة الأمن الإسرائيلية من جذورها. العملية، بذكائها التكتيكي وجرأتها العسكرية، كشفت هشاشة الكيان، وفضحت خواء القبّة الحديدية التي لطالما تفاخروا بها.
لكن الرد الإسرائيلي كان، كعادته، مجزرة مفتوحة.
شن الاحتلال واحدة من أعنف الحروب على قطاع غزة، مستهدفًا المدنيين، الأطفال، النساء، البيوت، المستشفيات، وحتى سيارات الإسعاف.
و العديد من الشهداء معظمهم من النساء والأطفال – وأكثر من ١٠٠ ألف جريح، وتدمير كامل للبنى التحتية، بما فيها الجامعات والمساجد والمدارس.
إنها ليست حربًا ضد حماس، ولا ضد "الإرهاب" كما يزعمون، بل هي إبادة جماعية ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، تهدف إلى كسر الروح، ومحاولة إنهاء الحلم الفلسطيني من جذوره.
لكن رغم الكارثة، وقفت غزة.
لم تنكسر، ولم تُسلّم.
بل أصبح أهلها عنوانًا للصمود الإنساني، والبطولة التي تتجاوز حدود الجغرافيا.
وهنا تكمن المأساة والأمل في آنٍ واحد.
إسرائيل في مأزق وجودي
كل ما يقوم به الكيان الصهيوني اليوم من تصعيد في غزة، واقتحامات في الضفة، واعتداءات على الأقصى، وحتى التحريض في الداخل الأردني واللبناني، ليس فعلًا ناتجًا عن قوة، بل رد فعل على تهديد وجودي.
إسرائيل تشعر بأن الوقت ينفد، وأن مشروعها يتآكل من الداخل، ولذلك تحاول إشعال المنطقة كلها، لإعادة إنتاج ذاتها من خلال الدماء والدمار.
لكن المعادلة تغيّرت.
المقاومة باتت تمتلك أدوات الردع، والجبهات تتكامل، والرأي العام العالمي بدأ يتحرّك، بعد أن شاهد جرائم الإبادة في غزة، بالصوت والصورة.
صورة الطفل الشهيد، وصوت الأم الثكلى، باتا أقوى من بروباغندا الاحتلال.
نظرة إلى الأمام: ما القادم؟
المسجد الأقصى سيظل محور الصراع، ولن يتوقّف الاحتلال عن محاولات السيطرة عليه. لكن إدخاله في صراع ديني مفتوح قد يؤدي إلى اشتعال المنطقة بكاملها، خصوصًا أن عشرات الملايين من المسلمين حول العالم يعتبرونه خطًا أحمر.
غزة ستبقى شوكة في حلق الاحتلال. وحتى لو تم تدميرها ماديًا، فإن روح المقاومة فيها أعمق من أن تُمحى بالقصف.
الكيان الصهيوني، كلما اشتد عدوانه، كلما اقترب من نهايته، لأن مشروعًا يقوم على الكراهية والقتل لا يمكن أن يُعمّر طويلًا.
العالم العربي والإسلامي مطالب الآن بأكثر من بيانات شجب. المطلوب موقف، حقيقي، شعبي ورسمي، يعيد ترتيب الأولويات، ويفرض الأقصى وفلسطين على أجندة كل عاصمة.
هذه لحظة فارقة في تاريخ الأمة.
ما يحدث في الأقصى ليس نهاية المعركة، بل بدايتها.
وما يحدث في غزة ليس هزيمة، بل ولادة جديدة للمقاومة والوعي.
العدو يعيش في رعبٍ حقيقي من زوال مشروعه، ولهذا يقتل، ويبطش، ويكذب.
أما الشعوب، فإنها تعرف أن النصر لا يأتي إلا عبر دروب الآلام.
وها نحن نراهم يذبحون القربان قرب قبة السلسلة...
لكننا نعلم أن القربان هذه المرة،
سيكون الكيان نفسه.