*
الاثنين: 07 نيسان 2025
  • 04 نيسان 2025
  • 16:39
العرب بين جاهليتين: من تبعية الفقر إلى عبودية الرفاه!
الكاتب: أ. د. هاني الضمور

في منعطفٍ تاريخيٍ غريب، يجد العرب أنفسهم اليوم في تكرار مأساوي لمشهدٍ قديم، وكأن الزمان أعاد دورته، ولكن بثيابٍ مختلفة وأقنعةٍ براقة. لقد انتقلوا من جاهليةٍ كانت عنوانها الفقر والعجز والتبعية للروم والفرس، إلى جاهليةٍ أكثر بؤسًا، تُمارس تحت أضواء الحضارة، لكنها تحمل في جوهرها الخضوع ذاته، بل أشد. لم تعد العبودية اليوم بسبب الجوع والعوز كما كانت بالأمس، بل بسبب التخمة والترف والارتهان الاختياري لمراكز القوة الحديثة. وما بين الجاهليتين، لا يزال الخيط الذي يربط الحاضر بالماضي هو ذاته: الغياب الموجع لروح القرآن، والبعد القاتل عن منهج الله.

في الجاهلية الأولى، كانت القبائل العربية مفرقة، تتنازعها الأهواء، ويتسلط عليها الطغاة من الروم والفرس. لم يكن للعرب وزنٌ في ميزان الأمم، ولا ذكرٌ في صحف الحضارة. كانوا أهل بادية وصحراء، لا يملكون من أسباب القوة شيئًا، حتى بعث الله فيهم نبيًا أميًا، يحمل كتابًا من السماء، قلب معادلات التاريخ، وأخرج أمةً من هامش الوجود إلى قلب التأثير. كان القرآن هو المعجزة، لا بمعناه البلاغي فقط، بل بما أحدثه من تغيير جذري في وعي الناس، وفي رؤيتهم للكون والإنسان والحياة. أصبحوا خير أمة أخرجت للناس، لأنهم آمنوا، وعملوا، وتمسكوا بالوحي الذي منحهم الرفعة، وأزال عنهم وصمة التبعية والضياع.

لكن ما أشبه اليوم بالأمس، مع اختلاف الأسباب والمظاهر. ها نحن نعيش جاهلية جديدة، تزينت بأحدث أدوات التقنية، وتغلفت بخطابات الحداثة والتنمية والانفتاح، لكنها في جوهرها تعبيرٌ عن الهزيمة ذاتها. لقد أُغرقنا في النعيم، فأضعف فينا الشعور بالحاجة إلى الله. أغرتنا الثروات، فانشغلنا عن مصدرها الحقيقي. فتنا بمدن الغرب الزاهية، فتركنا مدن أرواحنا خاوية. أصبحنا عبيدًا، لا لحاجة البطن، بل لانبهار العقل، ولاختلال البوصلة، ولغياب المرجعية التي تحفظ للأمة توازنها.

وليس من المصادفة أن يكون هذا الانهيار الداخلي موازيًا لهجرنا لكتاب الله. لم نعد نرى في القرآن مصدر نهضة، بل نصًا للتلاوة في المناسبات، بينما نبحث عن الحلول في مؤتمرات الغرب وخططه واستراتيجياته. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع شكواه إلى الله في صورة قرآنية خالدة: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا” [الفرقان: 30]، وكأن الآية نزلت تصف حالنا اليوم بدقة مرعبة.

وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع بين أيدينا المفتاح، فقال: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي.” فبهذا الحديث النبوي الشريف يُختصر طريق النجاة، ويُرسم منهج الخلاص من كل انحراف، سواء في الفكر أو السياسة أو الاقتصاد أو الهوية. إن التمسك بالقرآن والسنة هو صمام الأمان الحقيقي للأمة من التيه، وهو الضمانة الوحيدة ضد كل أشكال التبعية والانهيار.

لقد تحولت العلاقة بين الأمة والقرآن من علاقة قيادة وتوجيه، إلى علاقة شكلية لا تصنع وعيًا ولا تبني حضارة. ومع هذا الانفصال، لم يكن غريبًا أن نُهزم من الداخل قبل أن نُحاصر من الخارج، وأن نعيش حالة من التيه لا تختلف كثيرًا عن تيه بني إسرائيل في صحرائهم، رغم ما نملك من مقدرات وثروات وكفاءات. فليس الفقر اليوم هو سبب تبعيتنا، بل هجرنا للمنهج الذي يحرر العقول قبل الأوطان.

إن العودة إلى القرآن ليست ترفًا فكريًا أو عاطفة دينية، بل ضرورة وجودية وحضارية. هو الكتاب الذي يضيء الطريق في زمن الظلمات، ويمنح الإنسان كرامته، والأمة عزتها، والمستقبل ملامحه. ولا خلاص للعرب من الجاهلية المعاصرة إلا كما خلصوا من جاهلية الأمس: حين جعلوا من القرآن قائدهم، لا تابعًا لتوجهاتهم، ومنه الحَكَم، لا ورقة في سجلات التراث.

فهل نفيق؟ هل نستعيد وعينا؟ هل نملك شجاعة العودة؟ إن لم نفعل، فسنجد أنفسنا غدًا في جاهلية ثالثة، لا تنفع معها كل الثروات، ولا تشفع لها كل الشعارات. حينها، لن تكون المشكلة في قوة الآخرين، بل في ضعف إيماننا بما بين أيدينا. وسنبقى كما قال الشاعر:

“ومن يهن يسهل الهوان عليه… ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ.

مواضيع قد تعجبك