عندما يُعلن عن فرض رسوم جديدة على الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة، غالبًا ما يتبادر إلى الأذهان صورة قاتمة عن تأثير اقتصادي سلبي محتمل قد يعرقل نمو الاقتصاد الوطني ويؤثر بشكل كبير على الصناعات المحلية. فهل هذا التوجس منطقي أم أنه مجرد مبالغة إعلامية تنسى حقيقة أن الاقتصاد الأردني يمتلك القدرة على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية العالمية؟ في هذا المقال، سنتناول هذه المسألة من عدة زوايا لتقييم أبعاد هذا التحدي ونتائجه المحتملة.
أولًا: أسطورة الاعتماد على السوق الأمريكي
صحيح أن الولايات المتحدة تمثل حوالي 25% من إجمالي الصادرات الأردنية، إلا أن الحديث عن "الاعتماد المفرط" على السوق الأمريكي يحتاج إلى تدقيق. فقد شهدت الصادرات الأردنية في السنوات الأخيرة نموًا ملحوظًا لم يكن ناتجًا فقط عن الامتيازات الجمركية مع واشنطن، بل نتيجة لتطور الصناعات المحلية وجودتها العالية.
على سبيل المثال، قطاع الأدوية الأردني حقق نموًا كبيرًا خلال العقد الماضي، حيث تم تصدير حوالي 700 مليون دولار من الأدوية سنويًا إلى أسواق متنوعة حول العالم، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي. هذا يعني أن الاقتصاد الأردني لا يعتمد فقط على الولايات المتحدة، بل يستفيد من التنوع في الأسواق العالمية.
إضافة إلى ذلك، يُظهر التاريخ أن العديد من الدول التي عانت من التحديات الاقتصادية بسبب الرسوم أو الحروب التجارية، مثل الصين وتركيا، استطاعت تنويع صادراتها وجذب الاستثمارات إلى أسواق جديدة. فعلى سبيل المثال، تركيا، التي تعرضت لفرض رسوم أمريكية على صادراتها، استطاعت زيادة صادراتها إلى دول شرق آسيا وأفريقيا، وحققت نموًا اقتصاديًا ملحوظًا.
ثانيًا: من رحم التحديات تُولد الفرص
إن الظروف الاقتصادية الصعبة غالبًا ما تولد فرصًا جديدة، والرسوم الأمريكية قد تكون حافزًا للصناعة الأردنية لإعادة ترتيب أولوياتها وتنويع أسواقها التجارية. فبدلاً من الخوف من الرسوم، يجب أن نراها كمحفز لتوسيع نطاق الصادرات الأردنية إلى أسواق جديدة لم تكن تستغل بالكامل.
تجربة الصين خلال الحرب التجارية مع الولايات المتحدة تُعتبر درسًا كبيرًا في كيفية التحول إلى أسواق جديدة. الصين، التي كانت تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكي، بدأت في السنوات الأخيرة في الاستثمار المكثف في الأسواق الإفريقية والأوروبية، وهو ما أتاح لها تقليل أثر الحروب التجارية على اقتصادها. كذلك، يمكن للأردن الاستفادة من اتفاقياته التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي لتوسيع أسواقه وزيادة حصته في تلك الأسواق.
أضف إلى ذلك، أن قطاع الخدمات في الأردن، خاصة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والاستشارات الهندسية، يشهد نموًا كبيرًا ويمكن أن يكون محركًا رئيسيًا للاقتصاد الأردني في المستقبل. هذه المجالات لا تعتمد على السوق الأمريكي، بل تجد فرصًا واسعة في الأسواق العربية والآسيوية.
ثالثًا: القطاعات الأكثر تأثرًا... والأكثر قدرة على النهوض
بالطبع، هناك قطاعات مثل الملابس والمجوهرات والأسمدة قد تتأثر بشكل مباشر نتيجة للرسوم، حيث تعتمد هذه الصناعات بشكل كبير على السوق الأمريكي. لكن هل يعني ذلك أن هذه الصناعات ستتوقف عن النمو؟ بالتأكيد لا. بل على العكس، قد تكون هذه فرصة لتلك القطاعات لإعادة تحسين جودة منتجاتها ورفع قدرتها التنافسية.
الملابس، على سبيل المثال، يمكن أن تُوجه إلى أسواق جديدة مثل أوروبا الشرقية ودول آسيا التي تشهد طلبًا متزايدًا على الأزياء ذات الجودة العالية. كما أن قطاع المجوهرات الأردني، الذي حقق نجاحًا في أسواق الخليج، يمكن أن يستفيد من زيادة الطلب في الأسواق الآسيوية مثل الهند والصين.
إلى جانب ذلك، يمتلك الأردن ميزة تنافسية في قطاعات أخرى مثل الأدوية والخدمات التقنية والصناعات الغذائية، التي من المتوقع أن تكون أقل تأثرًا بتلك الرسوم. قطاع الأدوية، على سبيل المثال، يشهد طلبًا متزايدًا في الأسواق الأفريقية والآسيوية، وهو ما يجعل هذا القطاع أحد أكبر المحركات للاقتصاد الأردني.
رابعًا: الدبلوماسية الاقتصادية الأردنية لم تقل كلمتها بعد
الأردن ليس دولة معزولة عن بقية العالم. بل على العكس، فهو يمتلك شبكة واسعة من الاتفاقيات التجارية مع العديد من الدول والمناطق التي يمكن أن تشكل بديلًا مهمًا للأسواق الأمريكية. الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي يمثلان شريكين تجاريين مهمين للأردن، ويمكن توسيع التعاون التجاري مع دول آسيا وأفريقيا لتعويض أي نقص في الصادرات الأمريكية.
الاتفاقيات التجارية التي وقعها الأردن مع العديد من الدول، مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي واتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، تتيح له الوصول إلى أسواق ضخمة دون الحاجة إلى الاعتماد المفرط على السوق الأمريكي. علاوة على ذلك، فإن الاستثمار في تطوير العلاقات مع العراق وسوريا، وكذلك مع الأسواق الناشئة في إفريقيا وآسيا، يمكن أن يفتح أمام الأردن آفاقًا جديدة للنمو.
هل نخاف أم نبادر؟
الرسوم الأمريكية الجديدة ليست نهاية العالم بالنسبة للاقتصاد الأردني. بل هي فرصة يجب على الصناعة الأردنية استغلالها لتطوير نفسها وتنويع أسواقها بعيدًا عن الاعتماد على سوق واحد. نحن أمام مفترق طرق: إما أن نكتفي بالخوف والتوجس من هذه الرسوم، أو أن نغتنم الفرصة لتوسيع قاعدة صادراتنا وتنويع اقتصادنا.
التحديات تفتح دائمًا أبوابًا جديدة، والنجاح في الاقتصاد العالمي لا يأتي بالاعتماد على سوق واحد، بل بتوسيع الأفق وتنويع العلاقات التجارية. الأردن أمام فرصة لتحسين تنافسية صناعاته، وزيادة الاستثمارات في قطاعات جديدة، وبالتالي بناء اقتصاد أكثر مرونة وقوة. والاختيار كما هو الحال دائمًا، بيدنا.