*
الاثنين: 07 نيسان 2025
  • 03 نيسان 2025
  • 18:58
أوهام الجماعة: كيف يتحول الزيف إلى يقين؟
الكاتب: عمّار محمد الرجوب

يقال إن الحقيقة تُولد وحيدة، بينما الكذبة تحتاج إلى جمهور كي تعيش. ومع ذلك، فإننا نادراً ما نسأل أنفسنا: هل ما نؤمن به حقاً نابع من وعينا، أم أنه مجرد صدى لأصوات الجماعة؟ هل تشكلت أفكارنا من منطقٍ صافٍ، أم أنها نُقشت في وعينا بفعل التكرار؟

 

إن المجتمع، بطبيعته، يميل إلى صناعة قوالب جاهزة، نماذج فكرية مريحة، يفرضها علينا باسم "المنطق" و"البداهة"، بينما هي في جوهرها مجرد نتاج لظروف تاريخية، مصالح خفية، أو حتى مجرد خوفٍ جماعي من التغيير. وهكذا، تصبح الأكاذيب مقدسات، ويُنظر إلى من يشكك فيها كغريب، أو متمرد، أو حتى مجنون.

 

الفيلسوف شوبنهاور قال ذات مرة: "كل حقيقة تمر بثلاث مراحل: تُسخر منها أولاً، ثم تُعارض بعنف، وأخيراً تُقبل كأنها بديهية." وهذا بالضبط ما يحدث لكل فكرة تحاول الخروج من سجن المألوف؛ تواجهها الجماعة بالرفض، لا لأنها خاطئة، بل لأنها تزعج النظام المستقر في عقولهم. فالجماعة تخشى التغيير، ليس لأن التغيير مؤذٍ بالضرورة، بل لأنه يتطلب مجهوداً ذهنياً يُفضّل أغلب الناس تجنبه.

 

لكن، ما هو الواقع إذن؟ هل هو ما يقبله الجميع، أم ما يصمد أمام العقل؟ هنا يكمن المأزق: الحقيقة ليست ديمقراطية، فهي لا تُصوَّت عليها ولا تحتاج إلى أغلبية كي تصح. فكم من "حقيقة" سائدة انقلبت إلى وهم، وكم من فكرة غريبة أصبحت بديهية بعد قرون؟

 

التاريخ مليء بأمثلة من هذا النوع. في العصور الوسطى، كان الاعتقاد بأن الأرض مسطحة راسخاً في أذهان الجميع، ومن قال غير ذلك وُصف بالمهرطق. واليوم، ينظر إلينا التاريخ ساخرًا؛ كيف أمكن لجماعة كاملة أن تؤمن بوهمٍ واضح؟ لكن السؤال الأكثر إلحاحاً: ماذا عن أوهامنا نحن؟ ما هي الحقائق التي نؤمن بها اليوم، والتي سيضحك منها المستقبل؟

 

إن تحرير الفكر لا يبدأ بالتمرد العنيف، بل بالسؤال البسيط: لماذا؟ لماذا نصدق هذا؟ لماذا نرفض ذاك؟ لماذا نسير وفق هذا المسار دون غيره؟ إن من يطرح الأسئلة الصحيحة، حتى وإن لم يجد لها إجابة فورية، يكون قد قطع نصف الطريق نحو الوعي.

 

وأقول: "أشد الأكاذيب خطراً ليست تلك التي يخدعنا بها الآخرون، بل تلك التي نقنع أنفسنا بها تحت تأثير الجماعة." فالأوهام الجماعية ليست مجرد أكاذيب، بل هي أنظمة فكرية كاملة، تحيط بنا كجدران غير مرئية، ولا نجرؤ على اختبار صلابتها، خوفاً من أن تنهار فوق رؤوسنا.

 

لكن، أيهما أكرم للإنسان: أن يعيش في سجن مريح من الأكاذيب، أم أن يغامر في طريق الحقيقة، وإن كان محفوفاً بالعزلة؟ هنا تُختبر شجاعة العقول، فالعقل الذي لا يشك هو عقل لا يعيش حقًا.

 

فكر، تشكك، تمرد على الوهم، فإن العقل الحر لا يُشترى، ولا يُباع، ولا يُروض.

 

سلِ العقلَ لا تسلِمْ بغيرِكْ


ولا تتبعِ الزيفَ في فكرِ غيرِكْ


فإن عشتَ حراً فلستَ وحيداً


وإن كنتَ عبداً فما من نصيرِكْ
 

مواضيع قد تعجبك