*
الخميس: 27 آذار 2025
  • 24 آذار 2025
  • 16:30
كيف يؤثِّر سلامُ الأمِّ النفسيُّ على جودةِ حياةِ الطفلِ؟
الكاتب: ياقوت توبة

في رحلتِنا لفهمِ الطفولةِ والتربيةِ، علينا أن نُنوِّه إلى أنَّ جودةَ حياةِ الطفلِ وصحتَهُ النفسيةَ ليست منفصلة عن بيئتِهِ الأسريَّةِ، بل هما انعكاسٌ مباشرٌ لحالةِ الأمِّ النفسيَّةِ وتوازنِها الداخليِّ. فعندما نتحدَّثُ عن تربيةِ طفلٍ سليمٍ نفسيًّا، لا يُمكننا أن نتجاوزَ الدورَ الجوهريَّ الذي تلعبُهُ الأمُّ في بناءِ هذا الأساسِ. فالطفلُ لا يتلقَّى التربيَةَ من الكلماتِ والتوجيهاتِ فقط، بل من المشاعرِ والطاقةِ التي تّبُثُّها أُمُّهُ وأسرتُهُ في بيئتِهِ اليوميَّةِ.

فعندما تتمتَّعُ الأمُّ باتزانٍ نفسيٍّ داخليٍّ، فإنَّ ذلك ينعكسُ على طريقةِ تعاملِها مع طفلِها، ويجعلُها قادرةً على تقديمِ الحبِّ غيرِ المشروطِ، والتوجيهِ الهادئِ، وإدارةِ التحدياتِ السلوكيَّةِ بطريقةٍ واعيةٍ. في المقابلِ، فإنَّ الأمَّ التي تعاني من ضغوطٍ نفسيَّةٍ أو اضطراباتٍ داخليَّةٍ غيرِ مُعالَجَةٍ قد تجدُ نفسَها غيرَ قادرةٍ على توفيرِ بيئةٍ مستقرةٍ وآمنةٍ لطفلِها، ممَّا يؤثِّرُ على تكوينِهِ النفسيِّ والعاطفيِّ.

تشيرُ الدراساتُ في علمِ النفسِ التنمويِّ إلى أنَّ الأطفالَ الذين ينشؤون في بيئةٍ يسودُها الهدوءُ والاستقرارُ العاطفيُّ يكونون أكثرَ قدرةً على بناءِ علاقاتٍ صحيَّةٍ، اتِّخاذِ قراراتٍ، وإدارةِ مشاعرِهم بطرقٍ فعَّالةٍ. فالطفلُ، منذ لحظةِ ولادتِهِ، يتلقَّى رسائلَ غيرَ لفظيَّةٍ من والدتِهِ، يتعلَّمُ منها كيف يستجيبُ للعالمِ الخارجيِّ. فإنْ كانت الأمُّ قادرةً على تهدئةِ نفسِها وتتمتَّعُ بسلامٍ داخليٍّ، فإنَّ طفلَها سيتعلَّمُ بدورِهِ كيف يُهدِّئُ نفسَهُ ويُواجِهُ تحدياتِ الحياةِ

وعليهِ انوّهُ ايضًا إلى أنَّ أكثرِ الاحتياجاتِ النفسيَّةِ أهمِّيَّةً للطفلِ هو الشعورُ بأنَّهُ محبوبٌ بلا شروطٍ. فالحبُّ المشروطُ، الذي يعتمدُ على الأداءِ الجيِّدِ أو التصرُّفِ المثاليِّ، يزرعُ في الطفلِ مخاوفَ دائمةً من الفشلِ، ويدفعُهُ للبحثِ عن القبولِ في أماكنَ أخرى. أمَّا الحبُّ غيرُ المشروطِ، فهو الذي يُتيحُ له النموَّ بثقةٍ، والشعورَ بأنَّ قيمتَهُ لا تتأثَّرُ بأخطائِهِ أو بسلوكياتِهِ العابرةِ التي مِنَّ الإساس قابِلة للتعديل من خلالِ التوجيهِ الصحيحِ.

فالصحةُ النفسيَّةُ لا تعني غيابَ المشكلاتِ أو المشاعرِ السلبيَّةِ، بل تعني القدرةَ على إدارتِها بوعيٍّ ومرونةٍ. وهنا يأتي دورُ الأهلِ في تعليمِ أطفالِهم كيفيَّةَ التعاملِ مع مشاعرِهم، وليس إنكارَها أو كبتَها. كما أنَّه يحتاجُ إلى أن يرى نموذجًا حيًّا لكيفيَّةِ مواجهةِ الغضبِ، والحزنِ، والإحباطِ بطرقٍ صحيَّةٍ، وليس بردودِ فعلٍ متطرِّفةٍ أو انسحابيَّه.  

والأهلُ الذين يمتلكون وعيًا نفسيًّا كافيًا يدركون أنَّ التحدياتِ السلوكيَّةَ التي يمرُّ بها الطفلُ ليست بالضرورةِ مشكلاتٍ تستوجبُ العقابَ، بل هي إشاراتٌ تحتاجُ إلى فهمٍ وتوجيهٍ. فعندما يتمُّ التعاملُ مع السلوكياتِ الصعبةِ بأسلوبٍ قائمٍ على الفهمِ والتواصلِ بدلًا من الصراعِ والرفضِ، تصبحُ العلاقةُ بين الأهلِ والطفلِ أكثرَ قوَّةً وعمقًا، ممَّا يمنحُ الطفلَ إحساسًا بالأمانِ والثقةِ في نفسِهِ.

تعتبر احدى اهم مفاتيح الاستقرار النفسي هو التواصلُ الحقيقيُّ الفعَّالُ بين الأهلِ والطفلِ ليس فقط بالكلام، بل يَستوجِبْ الحضورِ الذهنيِّ والعاطفيِّ. فعندما ينظرُ الطفلُ في عينَي والدَيهِ ويرى الاستماعَ الحقيقيَّ والتقبُّلَ، فإنَّهُ يشعرُ بالأمانِ الكافيِّ ليُعبِّرَ عن مشاعرِهِ دون خوفٍ. إنَّ الأطفالَ الذين يحظَونَ ببيئةٍ داعمةٍ، حيثُ يُسمحُ لهم بالتعبيرِ عن أنفسِهم بحرِّيَّةٍ، يصبحونَ أكثرَ قدرةً على تطويرِ ذكائِهِم العاطفيِّ، واتِّخاذِ قراراتٍ متَّزنةٍ في المستقبلِ.

 

الخاتمة:

إنَّ بناءَ جيلٍ سليمٍ نفسيًّا لا يبدأُ فقط من تربيةِ الأطفالِ، بل من إصلاحِ علاقتِنا بأنفسِنا كأهلٍ. فكلَّما كان الأهلُ أكثرَ اتزانًا ووعيًا بذواتِهم، تمكَّنوا من بناءِ بيئةٍ نفسيَّةٍ داعمةٍ لأطفالِهم، تُتيحُ لهم فرصةَ النموِّ بطريقةٍ صحيَّةٍ ومتوازنةٍ. فالتربيةُ الحقيقيَّةُ ليست مجرَّدَ تعليماتٍ وقواعدَ، بل هي تجربةٌ عاطفيَّةٌ متبادلةٌ، قائمةٌ على الحبِّ، والفهمِ، والتواصلِ الحقيقي الفعال.

وحين تهتمُّ الأمُّ بصحتِها النفسيَّةِ، وتتعلَّمُ كيف تُديرُ مشاعرَها، وتمنحُ نفسَها المساحةَ للعنايةِ بذاتِها، فإنَّها لا تُفيدُ نفسَها فقط، بل تبني قاعدةً صلبةً لصحةِ أطفالِها النفسيَّةِ. فالأمُّ المتزنةُ نفسيًّا، هي التي تُربِّي طفلًا قادرًا على مواجهةِ الحياةِ بحبٍّ، وثقةٍ، واتِّزانٍ داخليٍّ.

تذكَّري عزيزتي:

أنتِ حجرُ الأساسِ لجيلٍ متَّزنٍ وسعيدٍ .

مواضيع قد تعجبك

مواضيع قد تعجبك