*
الاربعاء: 19 آذار 2025
  • 18 آذار 2025
  • 22:00
يمسكون عن الطعام ويطلقون العنان للسان
الكاتب: د.أحلام ناصر

حين يحلّ شهر رمضان، يتسابق الناس إلى الصيام، متبعين الشعائر الظاهرة من إمساك عن الطعام والشراب لساعات النهار. لكن، هل هذا هو جوهر الصيام؟ وهل الامتناع عن الأكل والشرب وحده يحقق الغاية العظمى من هذه العبادة؟ أم أن هناك بُعدًا أعمق يجعل الصيام أكثر من مجرد جوعٍ وعطش؟
الصيام، كما أراده الله، ليس معاناة جسدية، بل هو مدرسة روحية وأخلاقية، حيث يتجاوز الامتناع عن الطعام ليشمل تهذيب النفس، وكبح الأهواء، وتعزيز الرحمة والتكافل. غير أن الواقع يكشف عن مفارقة صارخة؛ فكم من صائم يُمسك عن الطعام لكنه لا يُمسك عن الكذب والنميمة! وكم من صائم يمتنع عن الشراب لكنه يُطلق لسانه للأذى، ويده للظلم، ونفسه للأنانية! فهل هذا هو الصيام الذي يرقى بالإنسان وروحه؟
الفرق بين الجوع والصيام
الجوع حالة جسدية قسرية، قد يمر بها أي إنسان، سواء كان مؤمنًا أو غير مؤمن، فقيرًا أو غنيًا، وهو ليس خيارًا، بل نتيجة لظروف قاسية تحرمه من تناول الطعام كالمعتاد. أما الصيام، فهو اختيار إرادي، يخوضه المؤمن بإيمان، ويستشعر فيه قيمة الحرمان المؤقت كوسيلة لتهذيب النفس، وكسر غرور الجسد، وتعزيز الشعور بالفقراء والمحرومين.
لكن، إذا كان الصيام مجرد إحساس بالجوع دون أن يُحدث تغييرًا في السلوك، فإنه يتحوّل إلى شعائر فارغة من الروح، لا يختلف عن أي حمية غذائية أو تجربة صبر على الجوع. ولذلك، قال النبي ﷺ:
(رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر (رواه ابن ماجه، هذه الكلمات تلخص الحقيقة بوضوح: الصيام ليس مجرد انقطاع عن الطعام، بل انضباط سلوكي وروحي، وإلا فإنه يفقد اهدافه وقيمتة.
الصيام الحقيقي هو رحلة لترويض النفس، حيث يضع الإنسان نفسه في اختبار إرادي يتجاوز به شهواته، ويتعلم الصبر، وضبط النفس، ويختبر مدى استعداده للالتزام الأخلاقي. فالصائم الذي يخرج من رمضان بنفس طباعه السيئة، وسلوكه الجارح، وأخلاقه المتدهورة، لم يستفد شيئًا سوى الإحساس بالجوع والعطش. إن الصيام في حقيقته تدريب على الإحسان والتكافل الاجتماعي، على أن يكون الإنسان أكثر وعيًا بسلوكياته، وأكثر لطفًا مع من حوله، وأكثر رحمة في تعامله مع الناس. فليس الصيام أن تفرغ معدتك من الطعام، بينما يظل قلبك ممتلئًا بالحقد، ولسانك مشحونًا بالسوء.
المفارقة الكبرى: لماذا يزداد بعض الصائمين حدة وانفعالًا؟
من المفترض أن الصيام يهدئ النفس، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على التحكم في ذاته، لكن بعض الصائمين يتحولون إلى قنابل موقوتة، سريعة الانفجار عند أول موقف مهما كان بسيطًا أحيانا، فترى التوتر في الشوارع، والشتائم تتطاير بين السائقين، والنفوس محتقنه، وكأن رمضان أصبح شهر الغضب لا شهر الرحمة.
هذه السلوكيات تكشف عن خلل عميق في فهم الصيام؛ إذ كيف يكون الامتناع عن الطعام سببًا في قسوة القلوب؟ وكيف يصبر الإنسان على الجوع ساعات، لكنه لا يصبر على كلمة أو موقف؟ إذا كان الجوع وحده كافيًا لصنع التقوى، لكان الفقراء أكثر الناس قربًا إلى الله، لكن التقوى تحتاج إلى وعي وإرادة، وليس إلى مجرد حرمان جسدي.
المشكلة أن كثيرًا من الناس يصومون لأنهم اعتادوا على ذلك، لا لأنهم أدركوا فلسفة الصيام وروحه. فالصيام إذا تحوّل إلى مجرد عادة اجتماعية، فإنه يفقد قيمته التربوية، ويصبح طقوسًا دينية شكلية بلا جوهر. أما الصيام الواعي، فهو الذي يجعل الإنسان أكثر تهذيبًا في كلامه، أكثر صدقًا في معاملاته، أكثر تسامحًا في سلوكه، وأكثر التزامًا بقيم الرحمة والعدل. ولذلك، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 183. فالغاية الكبرى للصيام هي تحقيق التقوى، وليس الجوع. والتقوى ليست مجرد امتناع عن الأكل، بل هي وعي داخلي يُوجّه الإنسان نحو الخير، ويُبعده عن الشر، ويجعله أكثر إحساسًا بالآخرين.
إذا أردنا أن يكون صيامنا حقيقيًا، فعلينا أن نصوم عن كل ما يؤذي أنفسنا وغيرنا. نصوم عن الغضب، عن الكذب، عن الظلم، عن الأنانية، عن قسوة القلب. عندها فقط، سيكون الصيام تجربة روحية سامية، لا مجرد تجربة جسدية عابرة.
إن رمضان ليس شهر الجوع، بل شهر الارتقاء بالنفس. فمن صام عن الأكل ولم يصم عن الأذى، فقد فاته المعنى الحقيقي للصيام. ومن امتنع عن الماء لكنه لم يمتنع عن الظلم، لم يدرك فلسفة رمضان. ومن جاع بطنه لكن قلبه بقي ممتلئًا بالحقد، لم يحقق شيئًا من صيامه. الصيام ليس جوعًا فحسب، بل هو دعوة إلى أن نكون أكثر إنسانية. فهل نحن مستعدون لصيامٍ يغيّرنا حقًا، أم أننا سنخرج منه كما دخلنا؟

مواضيع قد تعجبك