*
الثلاثاء: 18 آذار 2025
  • 17 آذار 2025
  • 16:58
هل نحن نعيش في جاهلية كل العصور؟!
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

نعيش في عصر يعج بالتناقضات، حيث تختلط الحقائق وتتحطم القيم تحت وطأة الفوضى العميقة التي تطبع كل جوانب حياتنا. من جهة، قد يعتقد البعض أن هذه هي "جاهلية العصر"، ولكن إذا نظرنا بتمعن، سنكتشف أننا لا نعيش فقط في جاهلية واحدة، بل في خليط فريد من كل الجاهليات التي عرفها التاريخ البشري. اليوم، نحن نعيش في "جاهلية كل العصور" – عصر تختلط فيه الألوان ويذوب فيه الحق في الباطل، ويُعطى القوي الحق ويُحرم الضعيف من أبسط حقوقه.
في هذا العصر، لا فرق بين الأبيض والأسود، الصالح والطالح، الشرف والفاسد. المواقف تتبدل مع مرور الوقت وفقًا لمصلحة من يملك القوة، وليس وفقًا لما يمليه الحق أو العدالة. القوي أصبح صاحب الكلمة الأخيرة، وحقوق الضعفاء باتت تُنتزع بكل جرأة، كما لو أن الحياة لا قيمة لها سوى لمن يملك السلطة والمال. إذا تحدثت عن الحق والعدل في وجه الطغيان، فأنت المتهم الأول، وإذا حاولت أن تكشف الفساد، فأنت المجرم. هكذا أصبح الحال اليوم: القوة هي الحق، والحق هو القوة.
الإعلام في هذا العصر هو أحد أدوات التشويش الكبرى. بدلًا من أن يكون وسيلة لإيصال الحقيقة، أصبح مجرد أداة لتشتيت الانتباه عن القضايا الحقيقية، مشغلاً الناس بمسائل تافهة بينما يتم بيع الأوطان وتضييع الحقوق. الإعلام يمسك بتلابيب عقول الناس ويزرع فيهم ما يريد. أصوات الحرية تُخنق، والآراء المعارضة تُقمَع تحت مسمى "الحفاظ على الاستقرار". لكن من يحقق هذا الاستقرار؟ بالطبع، هم من يملكون السلطة والمال، والذين لا هم لهم إلا الحفاظ على امتيازاتهم.
تحت شعار "حرية الرأي"، نرى تزايدًا في القمع الفكري. قد يتفاخر البعض بحقوق الإنسان، لكن الحقيقة المرة هي أن هذه الحقوق لا تُمنح إلا لأولئك الذين يسيرون في الركب المرسوم لهم، بينما يُستبعد الآخرون، الذين قد يشكلون تهديدًا للنظام السائد. في النهاية، هذه هي الجاهلية الحقيقية: أن يُحرم الناس من حقهم في التعبير عن آرائهم بحرية، وأن يُجبروا على قبول الظلم كأمر واقع.
أما فلسطين، فهي المثال الحي على ما نقوله. بينما يسعى البعض لتسويق "حق" الغزاة في الأرض، نجد أن الصهاينة الذين لا يؤمنون بالله، إلا أنهم يؤمنون بوعدهم "بالأرض". أليس هذا هو التناقض بعينه؟ يعتقدون أن لهم حقًا في أرض ليست لهم، ويزعمون أنهم يتبعون وعدًا إلهيًا وهم في الواقع لا يعترفون بهذا الإله إلا عندما يخدم مصالحهم.
نعيش في عصر يبدو فيه أن القيم قد تبعثرت بين الأيدي، وأن العقول تُعبَأ بالأكاذيب بدلًا من الحقائق. يتفشى الفساد، وتنتشر الوعود الكاذبة مثل غيوم الصيف التي تعلن عن رعود ولكنها لا تنزل منها أي قطرات من المطر. القلم أصبح أداة للقمع وليس للحرية، ورغيف الخبز أصبح حلمًا بعيدًا عن متناول الفقراء.
إذا كان لكل عصر جاهلية، فبالتأكيد نحن نعيش في "جاهلية كل العصور". جاهلية تُلغي الفكر، تشتت الحقائق، وتغذي الفساد على حساب العدالة. في هذا العصر، أصبح الحق في مكانه الخطأ، والخطأ في مكانه الحق. نحن في زمن اختلط فيه الصالح بالطالح، واندثرت فيه القيم الأصيلة تحت سيل من الأكاذيب والتضليل. وبدلاً من أن نبحث عن حلول حقيقية، نعيش في فوضى حيث يضيع كل شيء في ضباب معتم من الغموض والظلم
 

مواضيع قد تعجبك

مواضيع قد تعجبك