خبرني - كتب علي احمد الدباس :
صباح الخير عليك أيها الضمير الراقد في العيزرية ؛ صباحاً يخصك وحدك في ذكراك الخامسة عشرة ؛ وكأن كل هذه السنين مرت كلحظات ! هل حقاً مر كل هذا الوقت منذ فارقتنا يا أبي ؟
صباح الخير عليك يا أبي … يا من علّمتنا بعد وفاتك أكثر بكثير مما علّمتنا في حياتك ! كنت تقول لنا كلما ضُيّق عليك في رزقك ؛ وخرجتَ من عملك لموقفٍ ومبدأ : (( الرزق على الله والسمعة عند عباد الله )) …. لم نكن نفهمك يا والدي الطيب … لكنني اليوم أجدني مضطراً ان أبصم لك بالعشرة … مقتنعاً بأن سمعتك التي أورثتنا اياها هي رأس المال وهي الكنز الحقيقي الذي لا نفرط فيه !
أتصدقون ان تركة أبي الثقيلة المتعبة كانت فقط في لقبٍ استحقّه ذات انتخابات نقابية ؛ فأصبح هو (( الضمير )) في الأسرة الصحفية الأردنية ؛ ليحمل اللقب سنوات قاربت على العقدين ويرحل بعدها بصمت ويترك الدنيا موحشة بلا ضمير! !
كان هذا اللقب مبدعاً ؛ وأظن ان العم الصحفي محمد ابو غوش شافاه الله وعافاه هو من اطلقه على أبي …. واحياناً أهمس بين نفسي ونفسي فأقول : يا ليته ما اطلقه ! فكان هذا اللقب مرآة الحقيقة منذ رحيل ابي ؛ وكان هذا اللقب كالقيد والسلاسل كلما تزيّن لنا طريق ملتبس بلباس جميل ؛ وكان هذا اللقب برهان ربنا كلما دنت النفس وأمرت بالسوء ؛ فكان ضمير أحمد الحيّ في قبره رادعاً ووازعاً وموقظاً … فليس سهلاً ان تضيع تركة أبيك التي تعب فيها سنين العمر كلها وشقى!
أكتب اليك اليوم يا أبي بعد ان عزفتُ عن الكتابة في العامين الأخيرين ؛ بعد ان جف حبر القلم تماماً ؛ أكتب اليك بعد ان اخترت طريقاً آخر ودرت ظهري ومشيت في دربي " الحيط الحيط " وتجملتُ دون كذبٍ يا والدي قائلاً : يا رضا الله ورضا الوالدين ! لم يكن القرار يا والدي تنازلاً عن ضميرك ؛ وسيرتك ؛ وقلمك … لكنه كان منسجماً معهم وانت الذي علمنا : قل الحق لو على قطع رقبتك … وكنت دائما تكرر (( ما بفك الراس إلا اللي ركبها )) …. وعليه حين عجزتُ عن قول الحق اخترت ان لا اكتب … فطيفك يلاحقني في منامي غاضباً إذا كتبتُ غير الحق !
تغيرت الدنيا كثيراً من بعدك يا والدي ؛ تشقلبت المواعيد والموازين والقوى ؛ حتى المبادئ يا والدي تغيرت : أصبحت تجزأ وتقبل القسمة على " عشرطعش" ! أعادوا مجازر النكبة كلها يا والدي هذا العام … فإسرائيل رأت ان قصة النكبة اصبحت قديمة وصورها بالأبيض والأسود … وهكذا ارادت ان تجدد الألبوم بصور جديدة ملونة واكثر قساوة واكثر دموية … ارادت ان تذيقنا الصفعة التي ذقتموها … عذراً يا ابي فقد كنتُ طفلاً حين كنت تروي لي قصة النكبة وقصة النكسة وكنت اسألك بسذاجة شديدة : كيف يحدث كل ذلك وكيف سمحنا بذلك ؟ عذراً يا ابي لقد عرفتُ الان سذاجتي بعد ان ذقتُ قلة حيلتي! شيء واحد إضافه العرب لقاموسهم …. انه لم يعد كل عدوّ لاسرائيل صديقاً لهم ؛ بل تطوروا … اصبحوا اكثر تفتحاً وعمقاً واصبح عدو إسرائيل عدوهم ؛ ربما لانهم لا يريدون لأحد غيرهم ان يتصدى للمعركة المصيرية …. ربما يا والدي فلا تغضب في قبرك !
أحياناً يا والدي أفرح انك رحلت باكراً ؛ وذلك حين أتخيلك تعيش هذه الدنيا التي تغيرت ؛ الدنيا بلا ضميرٍ يا والدي وكنت ستتعب كثيراً بضميرك الذي أرهقك وجعلك ترحل باكراً ؛ وأحمد الله كثيراً انك رحلت صابراً شاكراً حامداً ثابتاً رغم كل ما اصابك من آلام ؛ ولا زلت أتذكر آخر كلمات خططتها بيدك قبل سويعات من وفاتك وأصرارك على نشرها بالجريدة في نفس اللحظة لتصدر على صفحاتها صبيحة وفاتك وكتبت فيها (( الحمدلله الذي امتحنني بالمرض والشكر لله سبحانه وتعالى الذي مكنني من الصبر على المرض الخبيث )) …. لله درك من اين جئت بكل هذا الصبر وهذا اليقين وهذا الثبات وهذا الامان وهذا الايمان يا أبي ؟
عشتَ طيباً ورحلت باكراً يا والدي ؛ عشتَ جريئاً في مجتمع جبان ؛ زاهداً تسبح ضد تيار الجشع ؛ نظيفاً في زمن الوحل ؛ ضميراً حياً في وقت اصبحت فيه الضمائر تباع وتشترى! ما تغيرتَ عن ذلك يوماً ؛ وما هادنتَ… وما حتى يوماً تندمت … وقد ربحت تجارتك يا أبي ؛ فالسمعة التي راهنت انها ستبقى عند عباد الله قد بقيت ونمت … وضميرك تخلد مثالاً للشرف والكبرياء اغلى عندنا من كل الأوسمة التي تمنح ؛ وأغنى لدينا من كل الملايين التي تُجمع ؛ ولا زلنا نسمع في كل مجلس كل معاني الاحترام ؛ ولا زلنا حين نتقدم لأحد ما بالتعريف نتقدم بفخر ( ابن المرحوم الصحفي احمد الدباس ) ويكفينا ذلك فخراً وشرفاً وعزاً يا والدي الطيب …. عليك رحمة الله ولك مغفرته وهو الرب المعبود الذي سلّمتَ له امرك راضياً مرضيا طوال حياتك وحتى لحظة مماتك !