بعد كل الكلام الذي سمعناه عن أزمة الطاقة والأزمة المالية، نجد أنفسنا اليوم أمام أزمة درامية أشد وطأة هي أزمة الغذاء. في هذه الأزمة، يجد المليارات من البشر في أفريقيا وآسيا وأميركا الوسطى والجنوبية، أنفسهم ضحايا لارتفاع تدريجي ومطرد في أسعار منتجات المزارع؛ مثل القمح، وفول الصويا، والأرز، والذرة، والحليب، واللحوم... وهو ما يؤدي لنشوب
اضطرابات يومية، واحتقانات في العديد من الدول التي تحتاج 36 منها على الأقل إلى امدادات عاجلة من القمح والأرز من أجل إطعام شعوبها.
لمواجهة تلك الأزمة، تجد بعض الحكومات، ومنها الحكومة المصرية على سبيل المثال، نفسها مضطرة لإعادة توجيه جزء كبير من الموارد التي تمكنت من مراكمتها، نتيجة لتطبيقها سياسات تنمية اقتصادية سليمة، من أجل دعم الخبز، بينما تجاهد حكومات أخرى في القرن الأفريقي وجنوب الصحراء الكبرى وأميركا اللاتينية من أجل إيجاد العلاجات الكفيلة بمواجهة
المجاعة التي تهدد شعوبها. فما هو السبب في الارتفاع الكبير لمنتجات المزارع؟
لا شك أن ارتفاع مستويات المعيشة في الصين والهند والعديد من الدول الأخرى، سبب من تلك الأسباب، بيد أنه ليس هناك من شك أيضاً في أن الزيادة في استهلاك اللحوم بالذات، قد تحققت بتكلفة باهظة للغاية، وهو ما يرجع لحقيقة قد لا يعرفها الكثيرون وهي أن إطعام الناس لحوماً يحتاج إلى مساحة زراعية تفوق بخمس مرات تلك المساحة التي نحتاجها لإطعام
الناس حبوباً. إلى ذلك تمثل التكاليف المتصاعدة للوقود والأسمدة، عاملاً من العوامل الرئيسية للأزمة الغذائية المتصاعدة. ورغم أنه ليس هناك سوى القليل مما يمكن عمله من أجل تغيير هذه الاتجاهات في المستقبل القريب، فإن هناك سياسة بعينها تؤدي إلى مفاقمة هذا الوضع بشكل سريع، وهي تلك الخاصة بإعادة توجيه المحاصيل الغذائية، لإنتاج الوقود الحيوي
بدلاً من توجيهها لتغذية البشر، وهو ما يعني وضع الغذاء في حالة صراع مع الوقود، في الوقت الذي تعاني فيه البشرية من ندرة في الاثنين. إن هذا الصراع مأساوي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهو ما يدعونا للعمل فوراً من أجل تغيير مسارنا في هذا الخصوص. على الورق، قد نقرأ أن السعي لإنتاج الوقود الحيوي يتم من أجل هدف نبيل هو تقليص الاعتماد على البترول ووقود الديزل في مجال النقل، من أجل تقليص الآثار البيئية الضارة الناشئة عن الانبعاثات الكربونية.
غير أن الأشياء للأسف لم تمض على النحو المخطط له. فحسب النتائج التي تم التوصل إليها بواسطة آخر المسوحات التي أجريت في هذا الشأن، تبين أن الاستمرار في استخدام التقنيات الحالية لإنتاج الوقود الحيوي، سيؤدي حتماً إلى جعل ميزان الطاقة يميل في الاتجاه الإيجابي بشكل هامشي، إن لم يكن سلبياً. ليس هذا فحسب، بل إن بعض خبراء الطاقة الكبار يذهبون
إلى أن هناك حاجة لكميات إضافية من الطاقة تعادل 30% من الطاقة المنتجة حالياً، من أجل إنتاج أنواع الوقود الحيوي في الولايات المتحدة الأميركية.
بشكل عام يمكن القول إن ذلك يمثل مأساة كبيرة سواء من الناحية الطاقوية أو البيئية. ولكي ندرك الأبعاد الكاملة لتلك المأساة، يكفي أن نعرف أن كمية القمح المطلوبة لإنتاج كمية من الإيثانول تكفي لتعبئة خزان وقود سيارة واحدة من السيارات الرياضية، يمكن أن يكون كافيا لإطعام شخص واحد لعام بأكمله. إن الذي حدث بموجب هذه السياسة هو أن ملايين الفدادين الزراعية قد أخرجت بدون تمهيد من إنتاج المحاصيل الغذائية، تحت ضغوط اللوبيات الزراعية القوية، واللوبيات البيئية المضَللة.
ليس معنى ذلك أنه يجب علينا إيقاف البحث عن مصادر للطاقة البديلة بشكل كامل، وإنما معناه أنه يتوجب علينا اتباع سياسات أخرى ناجعة؛ منها تشجيع الأبحاث في الجيل الثاني من أنواع الوقود الحيوي، والعمل على انتقاء أنواع جديدة من هذا الوقود، وتحسين كفاءة الإنتاج، واستخدام الأراضي الهامشية (الأحراش والأدغال) وليس أراضي المزارع الموجودة
حالياً، من أجل إنتاج كميات المحاصيل اللازمة لإنتاج الطاقة.
ويجب على الحكومات أن تتوقف فوراً عن تقديم الإعانات للمزارعين كي يقوموا بإنتاج كميات أقل من الطعام، وهو ما يجبر الدول الفقيرة في النهاية على إنفاق مزيد من النقود لتوفير الخبز اليومي لمواطنيها. ويجب أيضاً تحويل هذا الهدف إلى قرارات سياسية، والعمل فوراً على توفير مبلغ 500 مليون دولار المطلوبة من قبل برنامج الغذاء العالمي، لمواجهة الأوضاع الطارئة الحالية، وكذلك مبلغ 1.5 مليار دولار التي تحتاجها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة لنفس الغرض.
بيد أنه من المهم إلى جانب ذلك كله، العمل على معالجة المشكلة السياسية الرئيسية من أجل عكس اتجاه الأسعار الحالي، وذلك قبل أن تقدم الدول التي لديها مخزون كبير من تلك المحاصيل الغذائية، على فرض قيود على صادراتها منها، لأن هذا إن حدث سيحول الأزمة الحالية إلى مأساة عالمية كاملة الأوصاف.
وهناك مناسبتان دوليتان قادمتان هما اجتماع "الفاو" في روما واجتماع منظمة الدول الثماني الكبرى في اليابان، يمكن استغلالهما من أجل توفير البيئة المناسبة لمناقشة واتخاذ القرارات اللازمة لوضع السياسات الجديدة الرامية لإيقاف الضرر الذي سببته السياسات الحالية موضع التنفيذ، وكذلك إعادة توزيع موارد الغذاء وتوجيهها إلى الجهات التي تحتاج إليها أكثر من غيرها.
ومن الأمور الحتمية أيضاً العمل على تغيير السياسات الحالية في أسرع وقت ممكن، لأن أنواع العلاج التي تم تطبيقها حتى الآن أثبتت أنها أسوأ كثيراً من المرض الذي صممت من أجل علاجه ... إن العولمة تتطلب منا تطبيق هذه السياسات السليمة، ونحن في إيطاليا لا نستطيع التهرب من مسؤوليتنا في هذا المجال.
*رئيس وزراء إيطاليا المنتهية ولايته
كريستشيان ساينس مونيتور