بالرغم من التباين والتباعد في السياسة بين الرئيسين الأمريكيين السابقين (باراك أوباما) و(دونالد ترامب)، إلّا أنهما اتفقا على مبدأ واحد تجاه الشرق الأوسط، وهو أن المنطقة مكلفة للولايات المتحدة وذات عوائد شبه معدومة وبالتالي أفضل الحلول هو الخروج منها ب "بياض الوجه".
التدخل الأمريكي الكبير والمثير للجدل في العراق لم يكن بالشيء السهل. الولايات المتحدة بذلت الغالي والنفيس من آلاف الخسائر في الأرواح و ترليونات الدولارات. وبعكس ما يروّجه أصحاب نظريات المؤامرة، ما جنته في العراق لم يفدها بشئ سوى "سواد الوجه". بل في النهاية رُمى العراق في أحضان غريمتها إيران. وحتى عقود النفط المزعومة ذهبت في معظمها لصالح شركات صينية وروسية وفرنسية.
أما في الحالات التي لم تتدخل بها الولايات المتحدة أو تدخلت بشكل "خجول" مثل ما حصل في سوريا وليبيا واليمن ومصر فقد خرجت الولايات المتحدة أيضاً "بسواد الوجه".
وعن ذلك كتب (مارتن إندك) الدبلوماسي الأمريكي والسفير السابق لدى إسرائيل في صحيفة (وول ستريت جورنال) مقالاً مهماً تحت عنوان "االشرق الأوسط لم يعد يستحق كل هذا العناء". وقال فيه، "مع وجود القليل من المصالح الأمريكية الحيوية على المحك هناك، يجب على الولايات المتحدة أن تضع طموحاتها العظيمة جانباً في هذه المنطقة الفوضوية."
لا شكّ أن أمن إسرائيل وتدفق النفط كانا دائماً في مقدمة أولويات الولايات المتحدة في المنطقة. والآن بعدما هيمن شعورعام بأن إسرائيل آمنة بشكل كبير وخصوصاً بعد إبرام ما سُمىّ "باتفاقيات إبراهيم" وانخفاض أهميّة النفط العربي بالنسبة للولايات المتحدة بسبب وجود مخزون كبير منه لديها واعتمادها بشكل أكبر على استيرادها من دول أخرى كالمكسيك، تتمنى الإدارات الامريكية المتعاقبة ترك المنطقة وتوجيه اهتمامها شرقاً نحو الصين.
يقول السناتور (كريس مورفي)، العضو الديمقراطي البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، "إن الإدارات الأمريكية تجد أنه من الأسهل التحدث عن تحويل انتباهها عن الشرق الأوسط بدلاً من القيام بذلك عمليًا". يقول (مورفي): "هناك دائمًا أزمة". "هناك دائمًا شيء جديد ومثير يحدث في الشرق الأوسط. في حين أن مسار الصين بطيء وهادئ وثابت."
فمنذ عهد الرئيس الأمريكي (دوايت أيزنهاور) وجدت الولايات المتحدة نفسها غارقة في "مستنقع" الشرق الأوسط الممتلئ بصراعات الدول القومية والتطرف الديني وتدخل القوى العظمى الذي أحبط أجندات أمريكا الأوسع. والآن وإذ تنوي الولايات المتحدة الخروج والابتعاد عن هذا "المستنقع" يُجمع المراقبون أن وحل "المستنقع" نفسه يأبى أن يترك الولايات المتحدة لتخرج منه.
على أن خروج الولايات المتحدة لن يكون بهذه السهولة. حيث يُجمع المراقبون بأن عليها قبل حزم حقائبها والخروج من المنطقة إغلاق الملف الإيراني الشائك وتبعاته من توّغلات إيران النووية والصاروخية وإنهاء نفوذ وكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
أمّا اليمن- ذلك البلد الذي بدأت إدارة (بايدن) ببذل جهودها فيه، فهو بلا شك يُجسّد وصف الأمم المتحدة بأنّه أسوأ كارثة إنسانية في العالم. فقد مرّت سبع سنوات يقاتل فيها المتمردون الحوثيون المدعومين من إيران من جانب، والحكومة المدعومة من السعودية من جانب آخر. ومن الواضح أن القرارات التي اتّخذت حول اليمن تثقل كاهل ضمائر العديد من مسؤولي إدارة (بايدن) بسبب الدعم الذي قدمته إدارة (أوباما) للتحالف بقيادة السعودية، والتي عززتها إدارة (ترامب) في مناسبات عدّة.
منذ بداية عهد (ترامب)، تتناقل وسائل الإعلام تصريحات شديدة أحياناً ودبلوماسية أحياناً اُخرى بين مسؤولي الإدارة الأمريكية ونظرائهم في الجمهورية الإسلامية. حيث اتبع (ترامب) سياسة "أقصى ضغط" تجاه إيران والتي قابلتها بنجاح نسبي بسياسة "أقصى مقاومة". ويتسائل المراقبون إن كان بوسع الولايات المتحدة الخروج من هذه المتاهة؟
الجواب يمكن أن يقرأ من خلال تعيين (بايدن) للدبلوماسي المخضرم وخبير شؤون الشرق الأوسط (روبرت مالي) مندوباً له للشؤون الإيرانية.
(روبرت مالي) هو نجل الصحفي اليهودي واليساري المصري الولادة الحلبي الأصل (سيمون مالي)، والذي كلفه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالعمل مراسلاً لصحيفة الجمهورية المصرية في الأمم المتحدة بسبب مواقفه المؤيدة لقضايا دول العالم الثالث.
أما الأبن (روبرت مالي) فقد تلقى تعليمه في عدد من أرقى الجامعات على مستوى العالم. فهو خريج جامعتي (هارفارد) و(ييل) الأمريكيتين حيث كان زميل الدراسة للرئيس السابق (باراك أوباما). واستكمل دراسته في جامعة (أكسفورد) البريطانية حيث نال منها درجة الدكتوراه وكانت اطروحة تخرجه بعنوان "العالم الثالث واضمحلاله".
وكان (روبرت مالي)، قبل تعيينه في منصبه الجديد، يشغل منصب الرئيس والمدير التنفيذي "لمجموعة الأزمات الدولية" في واشنطن. وقبل وقت قصير من مغادرته عمله السابق، أصدرت المجموعة تقريراً يصف الخطوات التي يجب على أمريكا اتخاذها للعودة إلى الصفقة مع إيران.
وتشمل هذه الخطوات التزاماً من قبل إدارة (بايدن) بدعم "قرض طارئ" طلبته إيران من صندوق النقد الدولي لمواجهة وباء الكورونا. يلي ذلك - بحسب ما نشره (مالي) - جدول زمني تفاوضي لإيران لإلغاء انتهاكاتها للاتفاق النووي. تقوم أمريكا بتخفيف العقوبات في كل مرة تُصدق فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران تراجعت عن كل انتهاك، في عملية قد تستغرق من شهرين إلى ثلاثة أشهر.
وبعد ذلك، سيكون في إيران رئيس جديد، يمكن لأمريكا وحلفائها الوصول معه لما تصفه الإدارة الأمريكية باتفاقية "أطول وأقوى". قد تشمل هذه الصفقة التطبيع الاقتصادي بضمانات طويلة الأمد لاستمرار الطبيعة السلمية لبرنامج إيران النووي وقيود على صواريخها الباليستية. على الرغم من أن بعض مسؤولي (بايدن) قد جادلوا بمحاولة إبرام صفقة واحدة كاملة، إلاّ أنّه يبدو أن هذا النقاش قد تم حسمه لصالح "النهج التدريجي".
وإذا نجحت خطة (مالي) في إغلاق هذا الملف يمكن بعدها للولايات المتحدة تخفيض قواتها ونفوذها في المنطقة. ويبقى السؤال هنا... هل سنسمح نحن شعوب الشرق الأوسط لأمريكا بأن ترحل؟