*
السبت: 27 ديسمبر 2025
  • 14 نوفمبر 2016
  • 07:50
التقمّص المفضوح
الكاتب: د. عصمت حوسو
التقمّص المفضوح
وثبَ الثعلب يوماً وثبة        شغفاً منه بعنقود العنب لم ينله؛؛ قال هذا حصرم      حامض ليس لنا فيه أرب هذا المقال يقدم تحليلاً نفسياً اجتماعياً لأحد الحيل النفسية (التقمّص) الذي يتراوح بين توّهم القوة ومراوغة الحقيقة، والأبيات الجميلة السابقة تقدم تشبيهاً مجازياً لتلك الحيلة (الرخيصة)... التقمّص آلية نفسية يقوم الشخص (رجل أو امرأة) من خلالها بالتماهي مع سمات من الآخر لدرجة قد يحصل تحول جزئي أو كلي في نموذج الشخصية الحقيقية لتتطابق مع الأخرى المستهدفة . ويحدث التقمص بسبب تأثر (الأنا) بأنا أخرى (مميزة) فتنتقل صفات تلك الشخصية المميزة إلى المتقمصة من خلال التقليد والمحاكاة ولكن بدرجة أقوى؛ لأنه يدوم ويترسّخ الى حدّ ذوبان الشخصية الأصلية وتبنّي سمات الشخصية المتقمّصَة وتمثّلها. وهنا لا يكون التقمص مجرد محاكاة وتقليد بل يتطور مرضيا لأبعد من ذلك للوصول الى (التملك) وانتقال ملكية نفسية من ذلك الشخص (المبهر) الى الشخص المهووس.. والتقليد هنا يأتي على عدة أشكال: تقمص اللغة، أو تقمص طريقة الكلام ونبرة الصوت، أو تقمص طريقة الكتابة، أو تقمص طريقة الحوار، أو تقمص طريقة اللباس وغيرها.... من يلجأ الى التقمص يكون خاويا من المبادىء والقيم العليا ويحبس نفسه في سوق العبودية الاختيارية والمزاد (السرّي) لممارسة النخاسة، ولحسن الحظ ان ذلك العملاق الورقي سرعان ما يُفتضح أمره عندما تتسلط عليه أضواء الحقيقة بحكمة قدرية. وبالمقابل؛ من يكون صادقاً مع نفسه ويدلف نحو عتبة الحقيقة كما هي دون تلوين أو تزويق ويقترب من وهج الحق ويتعلق بأهدابه يزداد بريقاً ويقيناً (مبدئياً) ويتقمص أسباب القوة الفعلية في التأثير على الآخرين لا الوهمية المبنية على الزيف والخداع.. ويرتبط التقمص بأعراض (الهستيريا) فيشعر الشخص بالدونية ويكون التعويض عنها بتقمص الآخر على شكل معايشة درامية، يستخدم الجسد كوسيلة تعبير، والإغراء (العقلي أو الجسدي) كوسيلة اتصال صاروخية مع الآخر لمراكمة المصالح الأنانية. يكون الهدف منه (الظهور) بصورة مزيفة أمام الآخر لتحقيق هدف (ما)، الأمر الذي يضطر ذلك الشخص القيام بسلوكيات تصدع شخصيته الحقيقية؛ فبدلاً من دفعها للأفضل يلجأ الى التمثيل للوصول لمآربه. عاجلا أم آجلا ستفضحه الحياة ويكتشف الآخرون معدنه الأصلي ان كان كاذباً أو ماكراً أو مخادعاً أو مقلداً أو عدوانياً أو مدعياً العلم والثقافة أو مدعياً الأخلاق والوطنية.. الشخص التائه في معرفة ذاته ومن يملك (الأنا الفارغة) الجوفاء ومن يجهل مكنونات نفسه، يدفعه ذلك الى التقمص والبعد عن الواقعية واللجوء الى (تمثيل) المثالية وأحياناً الى الشرّ البحت. فعدم احترام الذات، وعدم الرضا عنها، واستحقارها احياناً، والطمع في الغير، يقود الى التقمص. بحيث يصبح الشخص متخبط نفسياً وفي حالة (هذيان) دائمة، وتعم الضبابية في السلوك فنرى تضارب في أفكار المتقمص تجعله غير متوازن وينفضح فوراً... أفضل الطرق وأبسطها للوصول للآخر هي الحقيقة ذاتها بعيداً عن ركوب حصان طروادة، أما تقمص سمة (ما) من شخص آخر لهدف (ما) فلا تعكس سوى نرجسية بأبواق فارغة المحتوى ومنعدمة الجذور في أرضية الواقع. لا يمكن وصفها الا بهذيان صبياني يبني قصوراً من رمال على شاطىء الأحلام، ويصنع صورة ممسوخة هشّة في مصنع المستحيل، وينخرط في غيبوبة السذاجة الاعتباطية لاستحالة الوصول للأهداف المعلنة والخفية بتوهّم القوة ومرواغة الحقيقة.. ممارسة التقمص للمراوغة وتسجيل هدف خسيس في مرمى الأدمغة (القابلة) لغسيل فعليّ تثير قهقهة اللؤم في خبث ثعلبي، فيبني (المتقمص) لنفسه صروح مجد من السراب لأنه بصدد التعامل مع (المنقذ) ممثل الخلاص الأخير فيتصنّع- المتقمص- بنبرة النضج المزيفة ... إن سيكولوجية المتقمص يصعب التقاط صورتها الخامة مع تسارع تقلباته الحربائية وتغير ألوانه بتغير المواقف وتغير نمط الحوار، وتحطيمه الرقم القياسي في الدهاء الثعلبي باغتنام الفرص، والمحاولات البائسة المتكررة للهيمنة على مفاتيح الأبواب المغلقة (للأبد).. الأمر الذي يجعل هويته هلامية خصوصاً حينما ينطلق في حرث حقل (المستحيل) كولوج الجمل في سمّ الخياط.. وفي سياق الظلام المفتعل تتحرك خفافيش التهوّر ببوصلة مهترئة ضاعت وجهتها بسبب (مراهقة متأخرة) ترقص على إيقاع تدجين الذاكرة المسروقة (المتقمصة) في زنزانة القوة المهووسة. مدججين بأحدث أسلحة النفاق الخارق والخطاب المزدوج المتبجح بالعقلانية والثقافة والوطنية، والعابدين لصنم الغرور الذاتي، والراضخين لحسابات معادلة ضرب الحقيقة الذاتية الفعلية في (الصفر)، فتغدو تلك الشخصية رمزاً للقبح عندما تتأمل ملامحها على مرآة الحقيقة... لا شك ان التقمص مرض نفسي بامتياز خصوصا اذا تزامن مع الاضطراب الهستيري، وهو بحاجة لعلاج دوائي مكثف مترافقاً مع علاج معرفي سلوكي أيضاً، يتم إعادة بوصلة المريض الأخلاقية الى المسار الصحيح ومنعها من الانحراف مرة أخرى، ويتم تعليم المريض التحلّي بحسن الخُلُق، وإعادة تأهيله ليتقبل واقعه وشخصيته الحقيقية لا المتقمصة، والأهم يتم تعليم المريض أهمية الصدق مع الذات قبل الصدق مع الآخرين ومواجهة الحقائق مهما صعُبت.. إنّ توهّم القوة ومرواغة الحقيقة تصنع متقمصاً مفضوحاً وأكثر، فإذا بوليتم استتروا....  

مواضيع قد تعجبك